تناولنا في المقال السابق واحدة من أعجب قصص نهب آثار مصر وتجريفها من كنوزها، والتي كان بطلها المغامر الإيطالي جيوفاني باتيستا بلزوني، الذي لم ينل أي قسط من التعليم سوى القراءة والكتابة. عمل حلاقاً مثل أبيه وفشل فعمل في السيرك وفشل في ذلك أيضاً. وجاء إلى مصر ليجرب حظه في تجارة الآثار ونقلها من مصر إلى متاحف العالم، ولا مانع من بيعها لتزيين قصور الأغنياء. وبينما بلزوني يعبث بآثارنا هو ووكلاء القناصل الأجانب في مصر، كانت سارة زوجته اليهودية - التي وصفناها في المقال السابق بأنها لم تكن أقل جنوناً من زوجها - قد تنكرت في زي صبي من المماليك، ورحلت إلى القدس للحج لكي تتمكن من خداع المسلمين وتتمكن من زيارة المساجد والكنائس بالمدينة المقدسة من دون أن يكشف أحد عن شخصيتها، لكنها على حد وصفها لم تسلم أيضاً من التحرش. وبمجرد أن عادت إلى الأقصر انضمت إلى زوجها وبدأت تقوم بعمل دراسة عن النساء وأوضاعهن في صعيد مصر، نُشِرت في كتاب زوجها عن آثار مصر. أعجب هنري سولت بوكيل أعماله بلزوني بعد نجاحه في نقل تمثال رمسيس الثاني الذي وصل عام 1821 إلى مقره بالمتحف البريطاني، ويصبح منذ ذلك التاريخ إحدى روائع الفن الفرعوني بالمتحف البريطاني.
وللأسف لم يهتم أحد لما قام به بلزوني من تحطيم أعمدة معبد الرامسيوم الشهير لكي يخلي الطريق لإخراج التمثال! كما لم يهتم أحد بأن النصف السفلي من التمثال لا يزال قائماً إلى يومنا هذا بمعبد الملك رمسيس الثاني شاهداً وفاضحاً للأعمال الاستعمارية في مصر ضد حضارتها.
بدأ سولت يمول أعمال بلزوني الاستكشافية والتي بدأها بالكشف عن مقبرة الفرعون «آي» بوادي الملوك. بعد ذلك كشف عن مقبرة الملك سيتي الأول، أجمل مقبرة ملكية بوادي الملوك. وداخل المقبرة وجد بلزوني تابوت الملك من المرمر الشفاف فقام بنقله وشحنه مع آثار أخرى لصالح سولت، الذي كافأه بمائتي جنيه إسترليني مع وعد بنصيب كبير عند بيع التابوت.
ترك بلزوني وزوجته مصر بعد تعرضه لمحاولة اغتيال داخل معبد الكرنك، وعادا إلى إنجلترا حيث استُقبلا بحفاوة كبيرة. وقام بعمل معرض آثار ومستنسخات شمعية من مقبرة سيتي في قاعة بيكاديللي بلندن، ومدن أوروبية أخرى ليحقق مزيداً من الشهرة والقليل من المال، بخاصة بعد تعاقد إحدى دور النشر معه لنشر كتاب عن رحلاته. وهنا أظهر هنري سولت وجهه الآخر لبلزوني عندما أيقن أن شهرة بلزوني قد علت على شهرته هو نفسه! وأن اسم هنري سولت الدبلوماسي الأرستقراطي سيظل يذكر للأبد، كونه مجرد ممول لبلزوني العظيم ابن الحلاق! لذلك رفض سولت منح بلزوني أي أموال من حصيلة بيع الآثار، وعلى رأسها التابوت المرمري الذي لا مثيل له، والذي اشتراه المهندس المعماري جون سوني بمبلغ ألفي جنيه إسترليني. وقام بعرضه في قصره بعد أن وضع الشموع المضيئة داخله ليشاهد الضيوف انعكاس الضوء على النقوش الخارجية البديعة.
ومن دون مقدمات ترك بلزوني سارة وقام برحلة استكشافية إلى غرب أفريقيا علَّها تخلد اسمه ضمن المستكشفين العظام. ولم يكن يدري أنه سيلاقي الهلاك في تلك الرحلة! والحقيقة أن قصة موته في أفريقيا لا تزال لغزاً؟ قيل إنه أصيب بالدوسنتاريا ومات، وقيل إنه أثناء مرضه تعرض للنهب والقتل على يد المحليين. هذا ولا يعرف مكان قبر بلزوني! أما هنري سولت فقد لحق ببلزوني بعد أربع سنوات بعد إصابته بمرض معوي غامض، ودفن في مقابر الإنجليز البروتستانت بالإسكندرية في أكتوبر (تشرين الأول) 1827. أما سارة فقد عمَّرت بعد وفاة زوجها لنحو خمسين سنة أخرى عاشتها في فقر مدقع، وكانت تتسول معاشها حتى ماتت بعد أن أصيبت بالخرف.