مع تصاعد وتيرة الحرب الروسية - الأوكرانية، بدأت أجهزة الاستخبارات الأوكرانية، التي أعادت بناء نفسها بصبر منذ 2014، توسيع نطاق عملياتها لتشمل الداخل الروسي، وباتت تتبع نهجاً مستوحى من «الموساد» الإسرائيلي، في ملاحقة من تعتبرهم مسؤولين عن الجرائم المرتكبة بحق أوكرانيا. وفقاً لمركز تحليل السياسات الأوروبية «cepa».
وأثار تصريح لافت أدلى به العقيد رومان كوستنكو، عضو البرلمان الأوكراني والقائد السابق في القوات الخاصة، جدلاً واسعاً في موسكو. فقد أشار في مقابلة أواخر أبريل (نيسان) الماضي إلى أن الاستخبارات الأوكرانية ستنتهج نموذج «الموساد» الإسرائيلي في تعقّب مرتكبي الجرائم واغتيالهم، في إشارة إلى ملاحقة جهاز الاستخبارات الإسرائيلي للنازيين بعد الحرب العالمية الثانية.
وأكد كوستنكو أن اتفاق السلام لن يكون سوى بداية، مضيفاً أن مرتكبي الجرائم سيُعاقبون أينما كانوا... وسيخافون حتى مغادرة منازلهم.
تصريحات كوستنكو لم تكن مجرد تهديد إعلامي، بل جاءت في سياق تصاعد عمليات اغتيال داخل الأراضي الروسية. ففي أواخر أبريل، قُتل اللواء ياروسلاف موسكاليك، الذي كان يرفع تقاريره مباشرة إلى الكرملين، في تفجير استهدف سيارته.
وفي ديسمبر الماضي، سقط الفريق أول إيغور كيريلوف في تفجير بدراجة نارية مفخخة، بعد يوم واحد من اتهامه باستخدام أسلحة كيميائية ضد أوكرانيا.
ورأى الصحافي الحربي الروسي، يوري كوتينوك، أن الاستخبارات الأوكرانية تتصرف كما لو أنها محصّنة داخل روسيا.
أما رئيس جهاز الأمن الأوكراني (SBU)، فاسيل ماليوك، فأكد أن كل جريمة يجب أن تُعاقب، مشدداً على موقف جهازه الثابت في ملاحقة المعتدين.
ميزة لغوية ومجتمعية
تحظى الاستخبارات الأوكرانية بميزة لافتة في عملياتها داخل روسيا، إذ يتحدث معظم عناصرها اللغة الروسية بطلاقة، ويملكون علاقات اجتماعية داخل روسيا، الأمر الذي يمنحهم قدرة اختراق عالية يصعب على أجهزة أجنبية أخرى تحقيقها.
وقد استُخدمت هذه الأفضلية في تنفيذ اغتيالات استهدفت ضباطاً متورطين في قصف مناطق مدنية، ووحدات عسكرية يُزعم ارتكابها جرائم حرب، من بينها مجزرة بوتشا سيئة الصيت.
شراكة استخباراتية أميركية - أوكرانية
تعود جذور قدرات الاستخبارات الأوكرانية إلى دعم أميركي مكثف بدأ بعد عام 2014، حين أعادت كييف بناء أجهزتها الأمنية من الصفر بعد تفككها عقب الثورة وفرار الرئيس فيكتور يانوكوفيتش إلى روسيا.
وبينما ترددت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) في دعم جهاز الأمن الأوكراني بسبب إرثه السوفياتي، وجّهت دعمها إلى مديرية الاستخبارات العسكرية (HUR)، التي وصفها دبلوماسي أميركي بأنها «الطفل المدلل» لـ«CIA»، حيث قُدمت لها معدات وتدريب متطور.
عمليات نوعية وردود روسية
ومن أبرز العمليات التي قامت بها «HUR»، هجوم تخريبي داخل شبه جزيرة القرم المحتلة عام 2016؛ أسفر عن مقتل عنصرين من جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB)، ما دفع واشنطن حينها إلى إعادة تقييم تعاونها مع كييف خوفاً من التصعيد.
وجرى لاحقاً اغتيال القائد الميداني ماكسيم شابوفال، فيما نجا كيريلو بودانوف، الرئيس الحالي لـ«HUR»، من محاولة اغتيال في 2019.
كما نُسبت إلى «HUR»، سلسلة اغتيالات طالت قادة ميليشيات موالية لروسيا في دونباس، أبرزهم موتورولا وغيڤي وزاخارتشينكو، وجميعهم اتُّهموا بارتكاب جرائم ضد المدنيين.
ومنذ بدء الغزو الروسي الشامل في فبراير (شباط) 2022، باتت تلك العمليات أكثر جرأة وتعقيداً، وسط قلق غربي متزايد من احتمالات التصعيد أو الخطأ في تحديد الأهداف.
وكانت عملية اغتيال داريا دوغينا، ابنة الآيديولوجي الروسي المتشدد ألكسندر دوغين، في أغسطس (آب) 2022، قد أثارت استياء واشنطن، بحسب صحيفة «نيويورك تايمز». غير أن نواباً أوكرانيين دافعوا عن العمليات، معتبرين أنها تثبت قدرة أوكرانيا على اختراق العمق الروسي، وتشكّل رسالة نفسية وسياسية تطعن في صورة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بوصفه زعيماً لا يُمس.
الاغتيال كأداة استراتيجية
ترى كييف في سياسة الاغتيالات أداة استراتيجية لكسر هيبة النظام الروسي، وردع مَن يخطط أو ينفذ هجمات ضدها. وبينما يُشكك بعض حلفائها الغربيين في جدوى هذا الأسلوب على المدى الطويل، تؤمن كييف أن كلفة الإفلات من العقاب يجب ألا تبقى بلا مقابل.
وفي خضم الحرب المستمرة، يبدو أن أوكرانيا، التي كانت ضحية الغزو، تسعى اليوم إلى تصدير معادلة جديدة: أن اليد التي امتدت بالعدوان... لن تبقى بعيدة عن العقاب.