«الغرب» يبحث عن صيغة جديدة تجنّبه التحوّل إلى مجرّد مفهوم جغرافي

العلم الأميركي وشعار «الناتو» في مقر الحلف ببروكسل (رويترز)
العلم الأميركي وشعار «الناتو» في مقر الحلف ببروكسل (رويترز)
TT

«الغرب» يبحث عن صيغة جديدة تجنّبه التحوّل إلى مجرّد مفهوم جغرافي

العلم الأميركي وشعار «الناتو» في مقر الحلف ببروكسل (رويترز)
العلم الأميركي وشعار «الناتو» في مقر الحلف ببروكسل (رويترز)

ينطبع في أذهان غالبية البشر أن الحرية والرفاهية والتقدّم (إلخ...) «كنوز» موجودة بشكل أساسي في «العالم الغربي»، المعروف بأنه يشمل دول أوروبا الغربية وأميركا الشمالية وأستراليا، وثمة من يرى أن هذا المفهوم الجيوسياسي - اقتصادي - اجتماعي صار يشمل دول أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية.

ما هو منطبع في الأذهان أيضاً أن الغرب تغلّب سياسياً وثقافياً واقتصادياً على المعسكر الشرقي الذي سقط بسقوط الاتحاد السوفياتي في بداية العقد الأخير من القرن الماضي، الأمر الذي بشّر بفتح صفحة جديدة في التاريخ العالمي مكتوبة بحروف السلام والوئام والازدهار.

وتفاءل كُثر بانتشار القيم الغربية البرّاقة وغلبة منظومة الأسواق الحرة وتضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء ومحو الأمية والقضاء على الأمراض... وسوى ذلك من أحلام وردية.

كانت فرحة يستحيل أن تدوم، فالعالم يسلك منذ فجر التاريخ مساراً دائرياً يتضمن محطات منيرة، وكذلك أزمات وحروباً وخيبات. بدأ الجو السلبي يتمظهر مع علامات على اهتزاز الأحادية القطبية (التي لم تحسن التعامل مع موقعها المتسيّد) في ظل صعود الصين وروسيا والخشية من حرب باردة جديدة. وهذا كان أمراً متوقعاً في عالم معقّد تفوق فترات اضطرابه فترات الهدوء بشوط كبير. لكن ما لم يكن متوقعاً هو ما يحصل الآن بوتيرة سريعة...

دونالد ترمب وفولوديمير زيلينسكي يوم المشادة الشهيرة في البيت الأبيض... 28 فبراير 2025 (أرشيفية)

انقسام عميق

عرفت ولاية دونالد ترمب الأولى توترات بين العمودين الأساسيين للغرب، الولايات المتحدة وأوروبا. ومع خسارة ترمب ودخول جو بايدن إلى البيت الأبيض، تنفس الأوروبيون الصعداء، خصوصاً أن الرئيس الديمقراطي أعلن بالفم الملآن أن «أميركا عادت». لكنْ بعد أربع سنوات من هذا الإعلان ها هم الأوروبيون يشاهدون الآن مذهولين تخلّي أميركا عن التعاون المعهود عبر ضفّتي الأطلسي، إلى درجة أن الزعماء الأوروبيين بدأوا يبحثون عن موقف وهوية بما يعكس اقتناعاً بأن الغرب الذي عرفه العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 في طريقه إلى الزوال، وبأن ثمة نظاماً جديداً يرتسم في الأفق ولا بد لهم من إيجاد مكان فيه.

استطراداً، لا شك في أن الغرب صار منقسماً على أسس آيديولوجية بعد تراجع أهمية القيَم المشتركة والمصالح الاستراتيجية الواحدة.

ويمكن تلخيص أسباب التباين الذي يتحول بسرعة إلى انقسام حادّ على النحو الآتي:

* خسر دونالد ترمب أمام جو بايدن في انتخابات 2020 وما لبث أن ثأر من خصمه وفاز عليه بعد أربع سنوات ليعود إلى الواجهة شعار «أميركا أولاً» الذي يعني التركيز على الشأن الداخلي والمحيط المباشر (كندا والمكسيك، ولا ننسى قناة بنما...). وهذا يعني حكماً خفض الاهتمام بأوروبا «القارة العجوز» واستتباعاً بحلف شمال الأطلسي (ناتو) حامي القارة بدرع عسكرية معظم مكوّناتها أميركية.

من هنا نفهم حماسة ترمب لإنهاء الحرب الروسية - الأوكرانية وإصراره على الظفر بتعويض مادي (عبر اتفاق المعادن) عمّا قدمته بلاده لأوكرانيا طوال أكثر من ثلاث سنوات. ولعل العودة إلى كلام نائب الرئيس جي دي فانس في مؤتمر ميونيخ للأمن وما تعرض له الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض تكفي لفهم مقاربة الإدارة الأميركية لـ«مشكلات الآخرين».

* شعار «أميركا أولاً» تحوّل إلى آلية عمل اعتمدت مواقف حمائية وفرضت رسوماً جمركية على عدة دول وبالتالي على عدة منتجات أوروبية بهدف حماية الصناعات الأميركية، ولمّا ردّ الأوروبيون بالمثل تولّد توتر في العلاقات الاقتصادية بين الجانبين، يضاف إلى التوتّر الناجم عن المقاربتين المتناقضتين لمسألة المناخ بين أوروبا التي كانت سبّاقة في اعتماد سياسات بيئية طموحة والولايات المتحدة التي لا يعترف رئيسها بالتغيّر المناخي.

* القومية والشعبوية ظاهرة تتصاعد في كل من الولايات المتحدة وأوروبا. لكن الفرق أنها في صلب فلسفة إدارة ترمب، بينما لم تنجح في الوصول إلى السلطة في غالبية الدول الأوروبية وبقيت في المعارضة. لذا تشعر القوى السياسية التقليدية في أوروبا، سواء كانت يمينية محافظة أو يسارية معتدلة، بالريبة من السياسة الأميركية وأي صعود محتمل لليمين المتطرف في هذه الدولة أو تلك.

هذه العوامل مجتمعة أقامت جداراً من عدم التوافق يصعب تجاوزه، وهو ما يدفع القادة الأوروبيين إلى البحث عن استقلال استراتيجي وسبل لتعزيز مكانة أوروبا في النظام العالمي الجديد.

والمؤكد أن التحالف عبر الأطلسي دخل مرحلة عصيبة للغاية، أسوأ مما كانت عليه خلال ولاية ترمب الأولى، خصوصاً أن الرئيس الأميركي لا يخفي شعوره السلبي تجاه الاتحاد الأوروبي، ويقول إن الاتحاد و«الناتو» مكّنا الدول الأوروبية من استغلال الولايات المتحدة طويلاً. وهو بذلك ينسجم مع القوى السياسية المتطرفة في أوروبا التي تطمح بشكل أو بآخر إلى التخلص من الاتحاد الأوروبي و«حكم بروكسل»، ومن هؤلاء رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، ونظيراه السلوفاكي روبرت فيكو والإيطالية جورجيا ميلوني، علماً أن الأخيرة ليّنت موقفها منذ توليها منصبها عام 2022.

المستشار الألماني فريدريش ميرتس (أ.ف.ب)

أوروبا تتحرك

عموماً، لا يزال اليمين المتطرف يتقدّم في أوروبا، وإن بوَتائر مختلفة وبوجود عقبات بعضها سياسي، وبعضها الآخر قانوني (تكبيل القضاء الفرنسي ليدَي مارين لوبن مثلاً). ولم يتردد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الكلام عن بروز «رجعية عالمية»، يحاول التصدي لها هو والمستشار الألماني فريدريش ميرتس، ورئيس الوزراء البولندي دونالد توسك، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، وحليف من خارج الاتحاد الأوروبي هو رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر.

ميرتس قدّم من جهته نموذجاً للتحرك العملي في اتجاه إعادة بلورة، بل ابتكار، الشخصية الأوروبية المستقلة، فقد قرر نشر قوة دائمة قوامها 5 آلاف جندي في ليتوانيا، في مؤشر يدلّ على حقبة جيوسياسية جديدة. وهو بذلك، ردّ على مطالبة واشنطن لأوروبا بتولي المسؤولية الرئيسية عن أمنها. ولئن كان عديد هذه القوة غير كافٍ لصد هجوم روسي شامل، فإنه حتماً كافٍ لإثارة رد فعل واسع النطاق في أوروبا وغرس شعور بالحذر في روسيا، مع أن ليتوانيا لا تتشارك حدوداً معها بل مع لاتفيا وبولندا وبيلاروسيا، الحليف الأقرب لموسكو. والأهم أن القرار الألماني قد يكون الخطوة الأولى في سلسلة خطوات أوروبية تريح ترمب وتطمئنه إلى أن الولايات المتحدة ستتخلص من بعض «العبء الأطلسي» الذي تحمله منذ ثمانية عقود.

منطقياً، لا بد لفرنسا أن تضطلع بدور ريادي في تحقيق النقلة الاستراتيجية، فهي الأقدر عسكرياً في أوروبا الغربية. وقد أبدى ماكرون أخيراً افتخاره بتذكير الفرنسيين بأن الجيش الفرنسي هو الوحيد بين الجيوش الأوروبية الغربية المكتفي ذاتياً، أي إنه لا يحتاج إلى معدّات وقطع غيار وذخائر تأتي من الضفة الأخرى للمحيط الأطلسي.

لطريقة إنهاء الحرب في أوكرانيا دور كبير في رسم ملامح الوجه الجديد لـ«الغرب» (أ.ف.ب)

نحو نظام عالمي جديد؟

في خضمّ كل ما يجري في المسرح الجيوسياسي والجيواقتصادي، يمكن أن ينبثق نظام عالمي جديد بتعاون أوثق بين ضفتي الأطلسي، اللتين تتمتعان بسجل حافل من العمل معاً وتستطيعان القيام بدور قيادي في كل المجالات.

ومن المرجح أن يتشكل مستقبل الغرب من خلال مزيج من التحديات والفرص التي يفرضها عالم متعدد الأقطاب يشهد صعود قوى غير غربية (تكتل «بريكس»، منظمة شنغهاي للتعاون...)، مما قد يؤدي إلى تزايد التنافس والحاجة إلى تعاون فعّال في مواجهة قضايا عالمية مثل تغير المناخ. وفي الوقت نفسه، على الغرب مواجهة تحديات داخلية مثل تراجع الديمقراطية وصعود الشعبوية والقومية.

سوف يحدد الغرب مستقبله من خلال قدرته على التكيف مع المشهد العالمي الذي يشهد تحوّلات جذرية تبتعد به عن «الخريطة» التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية ثم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. ومن الحيوي في هذا السياق البدء بطيّ صفحة الحرب الروسية - الأوكرانية عبر حل واقعيّ لا يغفل الواقع الميداني ولا يُعطي في الوقت نفسه روسيا أسباباً تفتح شهيتها على التوسع ومدّ النفوذ. فهذه الحرب التي وحّدت الغرب منذ بدايتها أدت عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض إلى جعلها عنصر خلاف استراتيجي بين أميركا وأوروبا. والطريقة التي ستُنهى بها هي التي ستحدّد بقاء «الغرب» مفهوماً ثقافياً يحتضن الليبرالية الديمقراطية أو تحوله إلى مجرد كيان جغرافي يشمل الولايات المتحدة وكندا ودول أوروبا الغربية.


مقالات ذات صلة

مسؤول عسكري: باكستان والهند تقتربان من استكمال خفض القوات على الحدود

آسيا الجنرال ساهر شمشاد ميرزا رئيس هيئة الأركان المشتركة الباكستانية خلال مقابلة مع وكالة «رويترز» على هامش قمة «حوار شانغريلا للأمن» في سنغافورة... 30 مايو 2025 في لقطة من مقطع فيديو (رويترز)

مسؤول عسكري: باكستان والهند تقتربان من استكمال خفض القوات على الحدود

قال مسؤول عسكري باكستاني كبير لوكالة «رويترز»، اليوم (الجمعة)، إن باكستان والهند تقتربان من تقليل حشد القوات على حدودهما إلى مستويات ما قبل الصراع الأخير.

«الشرق الأوسط» (إسلام آباد)
الولايات المتحدة​ طلاب يتجولون في جامعة بكين للدراسات الأجنبية بالصين... 29 مايو 2025 (أ.ف.ب)

جامعات حول العالم تسعى لاستقطاب الطلاب بعد قيود ترمب على تأشيراتهم

تسعى جامعات في أنحاء العالم إلى توفير ملاذ للطلاب المتضررين من حملة الرئيس الأميركي دونالد ترمب على المؤسسات الأكاديمية.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
أوروبا جندي ألماني على دبابة خلال تدريب لحلف الناتو في مارينبرغ، ألمانيا 12 يناير 2023 (رويترز)

مصادر: حلف «الناتو» سيطلب من ألمانيا 7 ألوية إضافية

ذكرت مصادر أن «حلف شمال الأطلسي (ناتو)» سيطلب من ألمانيا توفير 7 ألوية إضافية، أو ما يعادل نحو 40 ألف جندي، لتعزيز دفاعات الحلف.

«الشرق الأوسط» (برلين)
أفريقيا نازحون يسيرون في أحد شوارع جوبا بجنوب السودان... 13 فبراير 2025 (أ.ب)

المفوض الأممي يحث الأطراف المتحاربة في جنوب السودان على «الابتعاد عن حافة الهاوية»

حث فولكر تورك مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، اليوم الجمعة، الأطراف المتحاربة في جنوب السودان على «الابتعاد عن حافة الهاوية».

«الشرق الأوسط» (جوبا)
يوميات الشرق علبة البسكويت القديمة المزخرفة التي تم شراؤها من متجر في أوائل التسعينات لسحب مشروعات القوانين من المُشرِّعين ولا تزال قيد الاستخدام في البرلمان في ويلينغتون بنيوزيلندا... 22 مايو 2025 (أ.ب)

صندوق بسكويت قديم في البرلمان النيوزيلندي يقرر أوراق القوانين التي ستناقَش

في طقس برلماني فريد يجمع بين الجديّة والطرافة، يُستدعى صندوق بسكويت معدني قديم لتحديد أسماء مشروعات القوانين التي ستُدرَج على جدول النقاش بالبرلمان النيوزيلندي.

«الشرق الأوسط» (ويلينغتون)

الكرملين: نتابع تصريحات ترمب ومهتمون بمواصلة «إصلاح» العلاقات الروسية الأميركية

المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف (د.ب.أ)
المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف (د.ب.أ)
TT

الكرملين: نتابع تصريحات ترمب ومهتمون بمواصلة «إصلاح» العلاقات الروسية الأميركية

المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف (د.ب.أ)
المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف (د.ب.أ)

أعلن المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف، اليوم الأحد، أن الكرملين يراقب عن كثب تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب. وصرح بأن «العالم أجمع يتابع عن كثب كل كلمة صادرة عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكلام ترمب».

ووفقاً لـ«وكالة الأنباء الألمانية»، قال بيسكوف، في حديث لمراسل قناة «روسيا 1» التلفزيونية، بافيل زاروبين: «العالم بأسره يراقب عن كثب كل كلمة يصدرها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين... وكذلك كلام الرئيس الأميركي دونالد ترمب... وبالطبع، يجب علينا ذلك، ونحن نراقب عن كثب كل كلمة تصدر منه»، وفقاً لما نقلته وكالة «سبوتنيك» الروسية للأنباء.

وأكد بيسكوف أن روسيا مهتمة بمواصلة «إصلاح» العلاقات بين روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأميركية.

وعلق المتحدث باسم الكرملين، على التصريحات الأخيرة للرئيس الأميركي دونالد ترمب، التي دعا فيها موسكو إلى «عدم اللعب بالنار».

وأشار بيسكوف إلى أن «روسيا تراقب عن كثب تصريحات الرئيس الأميركي، لكن ينبغي الرد على هذه الخطابات بهدوء».

وأكد بيسكوف: «يجب أن نتصرف بهدوء، فمصالحنا الوطنية هي فوق كل شيء بالنسبة لنا... ومن مصلحتنا مواصلة إصلاح علاقاتنا الثنائية».

OSZAR »