فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

كاتب وفيزيائي وفيلسوف يسعون إلى معرفة الطبيعة النهائية للواقع

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.


مقالات ذات صلة

محمد سمير ندا: أفضّل أن أعيش كالخفاش بعيداً عن الأضواء

ثقافة وفنون محمد سمير ندا

محمد سمير ندا: أفضّل أن أعيش كالخفاش بعيداً عن الأضواء

حوار مطول يجيب فيه الكاتب على الجدل واللغط الذي أثير حول روايته «صلاة القلق» الفائزة بجائزة البوكر، ونفى مهاجمته للرئيس الراحل جمال عبد الناصر

رشا أحمد (القاهرة)
كتب الحب والمعرفة والتعاطف مع الآخرين

الحب والمعرفة والتعاطف مع الآخرين

يشيعُ في الأوساط المهتمّة بتاريخ الفلسفة أنّ لودفيغ فيتغنشتاين Ludwig Wittgenstein هو الشخصية الفلسفية الأهمّ في القرن العشرين رغم قلّة مؤلّفاته.

لطفية الدليمي
كتب «فن الحرب» في ترجمة كاملة عن الصينية

«فن الحرب» في ترجمة كاملة عن الصينية

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة صدرت طبعة جديدة من الكتاب الشهير «فن الحرب» الذي وضعه في القرن السادس قبل الميلاد القائد العسكري الصيني والمفكر الاستراتيجي سون تزو

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب «النقد الأدبي» لأحمد أمين لا يزال صالحاً لإثارة الدهشة

«النقد الأدبي» لأحمد أمين لا يزال صالحاً لإثارة الدهشة

للقاصّ المصري الراحل يحيى الطاهر عبد الله نصّ شهير يحمل عنوان «الحقائق القديمة لا تزال صالحة لإثارة الدهشة»

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون مسارات التجريب في القصة المصرية القصيرة

مسارات التجريب في القصة المصرية القصيرة

يسعى الناقد والروائي المصري سيد الوكيل، في كتابه «علامات وتحولات: في ذاكرة القصة المصرية» إلى الوقوف عند أهم محطات التجريب التقني في كتابة القصة القصيرة

عمر شهريار (القاهرة)

الحب والمعرفة والتعاطف مع الآخرين

الحب والمعرفة والتعاطف مع الآخرين
TT

الحب والمعرفة والتعاطف مع الآخرين

الحب والمعرفة والتعاطف مع الآخرين

يشيعُ في الأوساط المهتمّة بتاريخ الفلسفة أنّ لودفيغ فيتغنشتاين Ludwig Wittgenstein هو الشخصية الفلسفية الأهمّ في القرن العشرين رغم قلّة مؤلّفاته. يسوّغون الأمر لا بكثرة تصانيف الفيلسوف بل بثوريتها، ويرون أنّ كتابَيْ فيتغنشتاين (رسالة منطقية - فلسفية) و(أبحاث فلسفية) هما المثابتان الشاخصتان في فلسفة القرن العشرين. ربما تكون شخصية فيتغنشتاين الإشكالية وما انطوت عليه حياتُهُ من أنماط سلوكية غير سائدة أو متعارف عليها هما ما ساهما في إعلاء شأنه الفلسفي. لا أظنُّ أنّ معظم الفلاسفة مهما بلغت خواصهم الرواقية من مرتبة عليا سيرتضون أن يتخلّوا طواعيّة عن ميراثهم المالي الضخم من إمبراطورية آبائهم، ثمَ يكتفون بالعمل معلّمين في مدرسة ابتدائية على تخوم جبال الألب النمساوية، أو العمل بوّابين في عمارة كما فعل فتغنشتاين.

لو شئتُ الإدلاء بصوتي في تصويت حرّ لصالح مَنْ هي الشخصية الفلسفية الأكثر تأثيراً في القرن العشرين فسأختارُ برتراند راسل Bertrand Russell من غير مُنازع. ليس الأمرُ محض ذائقة شخصية أو انجذاباً فردانياً لسلوك محدّد بقدر ما هو نتيجة منطقية لخصائص انطوت عليها حياة رسل وشخصيته وآراؤه الفلسفية. عاش راسل ما يقاربُ قرناً كاملاً (1872 - 1970)، وتلك مساحة زمنية حفلت بضروب الثورات العلمية والتقنية والفلسفية والاجتماعية، ومن الواضح أنّ مَنْ يعيش طويلاً يرى كثيراً، ولن يكون بالتأكيد كمن عاش قليلاً. تخيّلوا معي بدايات راسل حيث كانت وسيلة النقل السائدة في المشهد اليومي هي حصانٌ يجرّ عربة متثاقلة، ثم مع نهايات حياة راسل وقبل وفاته بسنة يشهد بعينيه كيف وطأت قدم الإنسان تربة القمر لأوّل مرّة. من جانب آخر عمل راسل على أنسنة الاشتغال الفلسفي عبر الانغماس في حياة حسية كاملة جعلته أبعد ما يكون عن الشخوص الفلسفية المتعالية التي تلامس مثال الآلهة الإغريقية. تزوّج راسل غير مرّة، وساهم في التظاهرات التي دفع أثمانها سجناً وإبعاداً من وظيفته الجامعية، كما لم يكتفِ بوظيفة الأستاذ الجامعي المختال في أروقة جامعة كامبريدج الأرستقراطية بل (دسّ أنفه) في كلّ المعضلات العالمية: من الحروب العالمية والأسلحة النووية ومعضلة المجاعة وشبح الشيوعية والنظم السياسية الشمولية. خصيصة أخرى تميّز راسل: لم يكتفِ بالكتابة عن المعضلات الفلسفية التقليدية الممتدّة والمتوارثة منذ العصر الإغريقي حيث صُنِعت الفلسفة؛ بل تناول قضايا كثيرة ومتعدّدة حتى ليصعب على المرء أن يذكر مبحثاً أو اشتغالاً إنسانياً لم يتناوله راسل في كتاباته. أظنّ أنّ هذه الأسباب الثلاثة تكفي للتصويت على أحقّيته في أن يكون الشخصية الفلسفية الأكثر أهمية في القرن العشرين.

لقائي الفكري الأوّل مع برتراند راسل حصل عندما قرأتُ قبل عقود كتاب (صُوَرٌ من الذاكرة ومقالات أخرى Portraits from Memory and Other Essays) الذي نشره الفيلسوف الراحل في بواكير خمسينات القرن الماضي ليكون واحداً من سلسلة كتب تتناول سيرته الذاتية، وبلغت هذه السلسلة خاتمتها بنشر السيرة الذاتية للفيلسوف في كتب ثلاثة (نُشِرت لاحقاً في كتاب واحد عام 1975) تتناول حياته موزّعة على أطوار زمنية ثلاثة. ربما من المفيد أن أذكّر بأنّ القسم الأوّل من هذه السيرة الذاتية قد تُرجِم إلى العربية، وظلّ القسمان الآخران غير مترجمين لوقت طويل رغم أنّ معظم مؤلفات راسل الأخرى قد تُرجِمت إلى العربية.

كتابُ «صورٌ من الذاكرة» واحدٌ من أكثر الكتب التي قرأتها إمتاعاً، وهو ليس كتاباً فلسفياً بالمعنى الدقيق بقدر ما هو مقاربة لهوامش حياتية تمثل التقاطاتٍ ذكية لعقل فلسفي متمرّس في توصيف علاقته بالأفكار والناس والبيئة التي يتفاعل معها، وما شدّني أكثر من سواه لهذا الكتاب ذلك الفصلُ الذي يحكي فيه راسل عن بواكير علاقته بالفيلسوف ألفرد نورث وايتهد Alfred North Whitehead الذي صار أستاذاً لراسل في جامعة كامبريدج ومن ثمّ صار زميله وشاركه كتابة العمل الأشهر (أصول الرياضيات Principia Mathematica) الذي صدر في ثلاثة أجزاء خلال السنوات 1910 - 1913. يروي راسل في هذا الفصل أنه كان في طفولته مهجوساً بإثبات كروية الأرض، ولطالما سعى للحصول على شاهدة تجريبية تؤكّد هذه الحقيقة؛ لذا راح يحفر الأرض على أمل الخروج من الطرف الثاني المقابل لها، ولمّا أخبر والدا راسل طفلهما الصغير أنّ عمله هذا غير ذي جدوى لم يقتنع وظلّ يواظب على مسعاه؛ فلم يكن بوسع والديه سوى الاستعانة بقسّيس البلدة لكي يهدّئ من روعه، ولم يكن هذا القسّيس سوى والد ألفرد نورث وايتهد. يعلّمنا راسل من هذه الأمثولة الخطأ الفادح الذي يقترفه الأهل عندما يعملون على كبح جذوة التفكّر المفارق للأنماط الفكرية السائدة، فضلاً عن تعويق الدهشة الفلسفية التي تدفع الأطفال لمقاربة ذلك النمط من الأسئلة الوجودية الموصوفة بِـ(الأسئلة الكبرى The Big Questions) التي تتناول موضوعات الكون والوعي ومعنى الحياة وغائيتها.

تتناثر نتفٌ من سيرة راسل في كتاباته العامّة؛ غير أنّ القارئ المتفحّص سيكتشف بعد طول مراسٍ في قراءة رسل أنّ سيرته الذاتية يمكن مقاربتها في مؤلفاته الثلاثة: صورٌ من الذاكرة، تطوّري الفلسفي My Philosophical Development، تطوّري العقلي My Mental Development. المشترك الأوّل بينها هو شهادة راسل لطبيعة علاقته في أطوار مختلفة من حياته بعدد من الشخصيات الثقافية اللامعة في الساحة البريطانية؛ أمّا المؤلّفان الآخران فهما أقرب إلى اللغة الفلسفية الصارمة. لن تكون هذه المؤلفات الثلاثة بديلاً بأيّ شكل من الأشكال لسيرة راسل الذاتية التي ارتضى لها أن تحمل توصيفاً صريحاً متمثّلاً في عنوان (سيرتي الذاتية)؛ لذا سيكون من قبيل البديهة العامة أن تحرص الأوساط الثقافية العربية على ترجمة هذه السيرة الذاتية جنباً إلى جنب مع ترجمة كتبه الأخرى التي تُرجِمت ترجمات عديدة وبطبعات كثيرة. الغريب أنّ الجزء الأوّل فقط من سيرة راسل (وهو الجزء الممتد من ولادته عام 1872 حتى انفجار الحرب العالمية الأولى عام 1914) تُرجِم منذ سبعينات القرن الماضي بترجمة تكفّل بها أربعةٌ من أساتذة جامعة القاهرة. لا أعرف السبب الذي جعل أربعة من أساتذة الفلسفة يتشاركون جهد ترجمة عمل سِيريّ ذاتي غير متطلّب لجهد استثنائي ولا يتجاوز بالكاد حاجز الأربعمائة صفحة. أظنّ أنّ الترجمة جهدٌ لا يتناغم مع التشارك ويميلُ بطبيعته الإبداعية إلى الفردانية، وربما كان تعدّد المترجمين سبباً في عدم رواج الجزء الأوّل من سيرة راسل الذاتية. كان الأمر مثلبة بوجهيْن: الاكتفاء بترجمة عربية غير مشجّعة للجزء الأوّل من السيرة، ثمّ غضّ النظر عن ترجمة الجزأين الآخرين منها. ربّما تقدّمُ جهات النشر تسويغاً بثقل المادة الفلسفية في السيرة الذاتية وعدم تناغمها مع أذواق القارئين وتطلعاتهم القرائية، وهنا أقول: سيرة راسل الذاتية أقلّ في صرامتها الفلسفية بكثير من مؤلفات مترجمة لراسل لقيت قراءات موسّعة، ثمّ إنّ الخصيصة النخبوية في مؤلفات راسل معروفة ومشخّصة منذ زمن بعيد، ولن ينغمس أيّ قارئ في قراءة راسل إلّا وهو يعرف مسبقاً طبيعة التضاريس المعرفية التي ستواجهه. نخبويته ليست متقاطعة مع حجم قراءته أبداً مثلما أثبتت مؤلفاته الكثيرة.

الفيلسوف الإنجليزي الشهير تناول قضايا كثيرة ومتعدّدة تمس الإنسان

جهدٌ طيّبٌ يستحقّ كلّ التقدير ذاك الذي نهضت به دار (الرافدين) العراقية عندما نشرت مؤخّراً ترجمة عربية كاملة لسيرة راسل الذاتية في أجزاء ثلاثة، تناول كلّ جزء منها مقطعاً زمنياً ممتداً لبضعة عقود من حياته. أهمّ ما يمكن قولُهُ عن هذه السيرة أنّ من الخطأ أن يستبق القارئ الحقيقة فيظنّ أنّ السيرة هي محض سيرة فكرية أو فلسفية خالصة. الأصحّ وصفُها بأنّها سيرة حياتية مطعّمة بنكهة فلسفية أو فكرية لا يمكن التنصّل من مؤثراتها بعيدة الغور في تشكيل صورة حياة أحد أعظم فلاسفة القرن العشرين.

تناول راسل في الجزء الأوّل موضوعات طفولته وشبابه ودخوله جامعة كامبريدج وخطوبته وزواجه الأوّل وكتابته المؤلف الأشهر(مبادئ الرياضيات) ثم عودته لجامعة كامبريدج ثانية. في الجزء الثاني من السيرة (الممتد بين سنوات 1914- 1944) تناول راسل الحرب العالمية الأولى وتجربته مع روسيا والصين وزواجه الثاني ثم إقامته في أميركا، في حين تناول في الجزء الثالث (الممتد بين سنوات 1944-1967) عودته إلى بريطانيا وانشغالاته السياسية والثقافية (من قبيل تأسيسه مدرسة خاصة عمل مديراً لها). من المفيد الإشارةُ هنا إلى أنّ راسل حاز جائزة نوبل في الأدب عام 1950؛ لذا فإنّ كل قراءة له تعني قراءة نصّ أدبي رفيع فضلاً عن قيمته الفلسفية الدسمة.

OSZAR »