سردية تاريخية لفهم «الجنون»

كتاب المؤرخة الأميركية جوليانا كامينجز في ترجمة عربية

سردية تاريخية لفهم «الجنون»
TT

سردية تاريخية لفهم «الجنون»

سردية تاريخية لفهم «الجنون»

خلال القرنين التاسع عشر والعشرين في كتابها «تاريخ الجنون والمصحات العقلية»، تنطلق الكاتبة والمؤرخة الأميركية جوليانا كامينجز في رحلة موصولة بشغف طويل لتتبع تاريخ المرض العقلي، ومفارقات التعامل معه التي تتقاطع فيها الخرافة والجهل والتجارب العلمية الطويلة في هذا المضمار.

صدرت ترجمة الكتاب أخيراً بالعربية عن «دار تنمية» للنشر والتوزيع بالقاهرة، بتوقيع المترجم المصري أسامة عبد الحق نصار، الذي عدَّ في مقدمته أن الكتاب يمثل محاولةً لـ«فهم تطور العقل البشري من خلال تعامله مع موضوع الصحة العقلية والسلامة النفسية»، بالطبع، لا يمكن استيعاب التطور البالغ في هذا المجال دون التوقف عند محطات من اعتقادات العصور القديمة حول المرض العقلي، بدايةً من الاعتقاد في كونه ضرباً من العقاب الإلهي أو المس الشيطاني، وصولاً لكونه اختلالاً في توازن «الأخلاط الأربعة» المكونة لجسم الإنسان، حسب اعتقاد الإغريق القدامى، التي يُفصلها الكتاب، وغيرها من الاعتقادات التي أعلت من شأن التفسيرات الميتافيزيقية، التي تقع على طرف النقيض من الثورة العلمية في مجال المرض العقلي في العصر الحديث.

تختار مؤلفة الكتاب مدخلاً إنسانياً لكتابها، تحكي فيه عن تجربة أحد مرضى «الفصام» المحتجزين في مستشفى «ماكلين» بوسط بوسطن عام 1951، حيث كان يخضع المريض الشاب لإحدى وسائل العلاج الشائعة آنذاك باستخدام صدمات الأنسولين، وكان يعالج قسرياً لمعاناته من نقص السكر في الدم عبر جلسات على مدار عدة أيام متتالية تعتمد بالأساس على إخضاع المريض لزيادة الحقن بجرعات الأنسولين ما يجعله يدخل في تجربة منهكة للغاية. وتعدُّ الكاتبة من خلالها عن ذلك الميراث الطويل من الشقاء الذي عرفته جدران المصحات العقلية عبر تاريخها، وتقول إنه في النهاية رغم ما كانت تبدو عليه محاولات علاج الجنون «همجية» فإنها لم تكن تخلو من رغبة عميقة من أطباء تلك العصور لمساعدة مرضاهم.

وصمة الجنون

يقع الكتاب في 362 صفحة، ويتطرق عبر 10 فصول لتطوّر فهم الجنون منذ العصور الوسطى، وصولاً للتعامل مع المرض العقلي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، والاتجاه لإغلاق المصحات العقلية في العصر الحديث. ولعل الفصول الأولى من الكتاب هي الأكثر «درامية» لفرط ما تسلّط من ضوء على أوجه الشطط في التعامل مع الجنون، لا سيما من وجهة نظر السردية المجتمعية، إذ كان يُنظر للمجانين قبل القرن الخامس عشر في إنجلترا، على سبيل المثال، بوصفهم «حمقى القرية»، فيما كان وجود شخص «مجنون» في عائلة أمراً مخجلاً. تقول الكاتبة: «كان من المعتاد سماع قصص العائلات التي تضع أفراد العائلة المجانين في حظائر الحيوانات، أو حتى تقييدهم بالسلاسل». ويشير الكتاب إلى أن تلك النظرة ظلّت مستمرةً حتى منتصف القرن التاسع عشر، حيث بدأت تتغير في بريطانيا العظمى، ولم يعودوا ينظرون إليهم برعب، وعندها أصبح يتم التعامل مع المجانين بطريقة غير قاسية.

وكان الجنون في العصور القديمة يعدُّ محض روح شريرة تصيب الجسد، حتى أن أدلة يعود تاريخها إلى 7 آلاف عام مضت، تُظهر استخدام ما يعرف بـ«منشار الجمجمة»، وهي تقنية استخدمت لعمل ثقب للسماح بخروج الروح الشريرة من الجسد، وهو فهم وُجدت جذوره لدى الإغريق والرومان القدماء، وسط إيمان بارتباط الاضطرابات العقلية بغضب الآلهة، علاوةً على اللجوء للمعابد كمعبد الإله «أسكليبيوس» التماساً للشفاء، بما في ذلك الأمراض العقلية، وصولاً لجهود الطبيب اليوناني الأشهر «أبقراط» الذي يعد أول من فهم أنماط الإضرابات العقلية، بما فيها الهوس والكآبة والارتياب والذعر، وذلك بعد أن نظّر للمرض العقلي بوصفه تأثير الطبيعة على الإنسان، وأصّر على أن الدماغ هو المسؤول عن الأمراض العقلية، وأن ذكاء المرء وحساسيته تصلان إلى الدماغ عبر الفم أو من خلال التنفس، كما وجد أن الموسيقى يمكنها أن تعالج الروح، كما من شأنها أن تعالج الجسد، وهو ما تشير إليه الكاتبة باعتباره تأسيساً لدراسة العلوم الحديثة حول تأثير الموسيقى على الدماغ والصحة العقلية.

تشريح الكآبة

تتعقب المؤرخة الأميركية أبرز الكتابات حول الجنون منذ القرن السادس عشر، وتتوقف عند كتاب الإنجليزي روبرت بيرتون (1577 - 1640)، التي تقول عنه إنه رصد «المالنخوليا» أو «الكآبة» التي بلغت ذروتها في عصر الملكة إليزابيث. وكان بيتون قد قدم في كتابه المعنون بـ«تشريح الكآبة» تلخيصاً للمعرفة البشرية المتعلقة بالكآبة، علاوة على انشغاله بالرابطة بين المبدعين في الشعر والفلسفة والأدب والإصابة بالكآبة. وتعدُّ الكاتبة أن ملاحظة بيرتون كانت رائدة في مجالها «وسابقة لعصره». ثم تلتها بعد سنوات دراسات تتبع علاقة الكآبة بالعبقرية الفنية، كما في حالة الموسيقار النمساوي أماديوس موتسارت، الذي أفردت «مجلة الطب النفسي» عام 2005 دراسة موسعة حول إصابته بالمالنخوليا في ضوء حالة الحزن والكآبة التي عانى منها خلال سنوات حياته الأخيرة، التي عبّر عنها في رسائله، ووصف فيها شعوره بالحزن المستمر وضعف قدرته على التركيز، وحتى انخفاض المتعة التي يشعر بها خلال تأليف الموسيقى، و«كان بحاجة مستمرة إلى تأكيد أنه محبوب» كما تشير الدراسة، التي تفيد بأن نوبات الكآبة والغضب رغم ذلك كانت تتبعها نوبات رائعة من الإبداع.

وتبدو المفارقة أن بيرتون نفسه استخدم الكتابة نوعاً من العلاج، ووصف في كتابه «تشريح الكآبة» كثيراً من معاناته الذاتية حتى أوصى أن تكتب على شاهد قبره العبارة التالية: «لمن أعطى حياته ومماته للمالنخوليا».

ثم يتتبع الكتاب بدايات تدشين المصحات العقلية في أوروبا في نهايات القرن الثامن عشر مع تأسيس طائفة «الكويكرز» لمصحة «يورك» العقلية، وصولاً للتوسع بها في القرن التاسع عشر وحتى العصر الفيكتوري، ورصد حركة القوانين التي بدأت في مسايرة تلك الكيانات مع تطوّر فحوص الطب العقلي، وانعكاس ذلك على معاملة المرضى داخلها، والسماح لهم بالحركة داخل المصحات، ومراجعة مسألة ربطهم بالسلاسل خوفاً من أن يتسببوا في إيذاء أنفسهم أو الآخرين.

ويتوسع الكتاب في إبراز تغير المصحات بشكل جذري في بريطانيا بداية من خمسينات القرن العشرين، مع تطور طرق العلاج والاختراعات الدوائية. وتتوقف المؤلفة عند ما أحدثته الحرب العالمية الثانية من تكدس نزلاء المصحات الذين يعانون من صدمة الحرب، ما دفع مع الوقت لازدياد الضغوط لتحسين الأحوال المعيشية داخل المصحات، وكان أحد التحسينات في أعقاب الحرب هي سياسة الأبواب المفتوحة، التي سمحت للمرضى بالتنقل في حرية داخل المستشفى، وصولاً إلى الاتجاه لإغلاق المصحات في العديد من أنحاء بريطانيا، التي تبقى بها عدد قليل ممن يحتاجون إلى رعاية طويلة، وتعلق الكاتبة: «في حين أن كثيراً من المصحات العقلية الحكومية في بريطانيا أُغلقت أبوابها وهُدمت مبانيها، إلا أن تاريخها يظل شاهداً على تاريخ الطب النفسي في السنوات الماضية».


مقالات ذات صلة

راباسّا... حياةٌ مكرّسة للترجمة

كتب غريغوري راباسا

راباسّا... حياةٌ مكرّسة للترجمة

قد لا يعرف كثيرون اسمه ولم يسمعوا به من قبلُ؛ لكنّهم - على الأرجح - يمتلكون بعض أعماله في مكتباتهم. إنّه غريغوري راباسا، المثابة الشاخصة في الترجمة الأدبية.

لطفية الدليمي
كتب «جوركي وتشيخوف»... مراسلات في الأدب والحياة

«جوركي وتشيخوف»... مراسلات في الأدب والحياة

تكشف الطبعة الجديدة من «مراسلات جوركي وتشيخوف»، عن جانب من جوانب روائع الفكر في الأدب التي يعبر عنها اثنان من العظماء في تاريخه هما مكسيم جوركي وأنطون تشيخوف

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون كيف عكست الرواية النسائية صورة الرجل المعاصر؟

كيف عكست الرواية النسائية صورة الرجل المعاصر؟

في المجتمع يتناول كتاب «صورة الرجل في السرد النسوي المعاصر» الصادر عن دار «بيت الحكمة» للناقدة د. رشا الفوال تحليلاً فنياً وجمالياً من خلال منهج التحليل النفسي

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون مشهد من فيلم" كازانوفا"، المنتج عام 2005

كازانوفا الساحر مقيماً على التخوم الموحشة للملذات

لقد كُتبت شهرة كازانوفا بجميع اللغات، حتى أنه يفوق في عالميته معاصريه غوته وفريدريك الأكبر

شوقي بزيع
ثقافة وفنون حصان صلصالي من مقبرة الحجر، يقابله رأس حصان مشابه من قلعة البحرين

حصان صلصالي من مقبرة الحجر الأثرية في البحرين

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة متنوعة من التماثيل الصغيرة المنجزة بتقنية الطين المحروق

محمود الزيباوي

راباسّا... حياةٌ مكرّسة للترجمة

غريغوري راباسا
غريغوري راباسا
TT

راباسّا... حياةٌ مكرّسة للترجمة

غريغوري راباسا
غريغوري راباسا

قد لا يعرف كثيرون اسمه ولم يسمعوا به من قبلُ؛ لكنّهم - على الأرجح - يمتلكون بعض أعماله في مكتباتهم. إنّه غريغوري راباسا Gregory Rabassa، المثابة الشاخصة في الترجمة الأدبية. ترجم لأكثر من 30 كاتباً ناطقاً بالإسبانية والبرتغالية من أميركا اللاتينية إلى الإنجليزية. فَتَحَتْ ترجمات راباسا أعين القراء الناطقين باللغة الإنجليزية على الموجة الغنية من الأدب الحديث لأميركا اللاتينية المستوحى من التراث الشعبي (Folktale)، التي أُنتِجَتْ خلال فترة «الازدهار The Boom» لمؤلفين مثل خوليو كورتاثار، وماريو فارغاس يوسا، وبالطبع غابرييل غارسيا ماركيز.

«إذا كانت هذه خيانة If This Be Treason» هي مذكرات راباسا القصيرة؛ لكنها برغم قصرها مثيرة للتفكير. فضلاً عن كونها غنية بالمتع اللغوية والحقائق التاريخية والإشارات الأدبية فإنّ المذكّرات تظهر بجلاء وكأنّها عملُ شاعر بارع، تبقيك متيقظاً كمن يلعب الشطرنج ويتوقّع كل حين نقلة غير متوقّعة تقلب مسار اللعبة. تحفل المذكّرات بالعديد من الحكايات الشخصية؛ إلا أن راباسا يحافظ على مسافة بين السطور طوال الوقت كما لو أنّه لا يريد التصريح بعائديتها له. ربما يعود ذلك إلى أنه - كمترجم - اعتاد على المكوث في منطقة الظلّ، مقتفياً أثر المؤلفين الذين يترجم لهم. هذه بالطبع بعضُ مكابدات المترجم أينما كان في العالم. مع ذلك فإن اتباع كلمات المؤلف والعمل في ظلال نصوصه لا يعني التنصل من عبء المسؤولية. الأمرُ على العكس تماماً. إن العبء الأكبر الذي يقع على عاتق المترجم هو التفكير في خيانته الضرورية لأداء عمله، وهذا تماماً ما يفعله راباسا في القسم الأول من مذكراته. هنا يقدّم راباسا مراجعة لفعل المثاقفة المنطوية على خيانة كما وصف المثل الإيطالي القديم الذي صار واحداً من أشهر الأمثلة الكلاسيكية. يتساءل راباسا في مدخل أطروحته الجميلة حول الخيانة الترجمية: هل يخون هو (أي راباسا)، أو أي مترجم سواه، اللغة، أو الثقافة، أو المؤلف، أو - وهذا هو الأشدّ إيلاماً - نفسه عند الترجمة؟ كما يعلم كل من مارس فعل الترجمة الحقيقية، فإن نوعاً من الخيانة (أو الخسارة الثقافية) أمرٌ يكاد يكون حتمياً؛ بل إن راباسا يذهب إلى حد القول إن الترجمة فعلُ تقليد نجتهدُ أن يكون بأفضل ما يمكن لأننا لا نستطيع أن نكرر تماماً في لغة ما نقوله في أخرى. ومع ذلك علينا أن نحاول ولا نكفّ عن المحاولة وتحسين الفعل. يقول راباسا في هذا الشأن: «قد تكون الترجمة مستحيلة؛ ولكن على الأقل يمكن تجربتها».

يستخدم راباسا القسم الأول أيضاً للإطلالة السريعة على وقائع موجزة من خلفيته العائلية والثقافية والمهنية. يبدو الأمر وكأنّ راباسا كان مهيّئاً على نحو جيد منذ البدء ليكرّس حياته للترجمة. كان ابناً لأبوين عاشقين للكلمات، وجَدّين من أربعة بلدان مختلفة، حظي بتعليم لغوي مكثف ومتنوّع وممتاز، وشرع في مسيرة عسكرية قصيرة أوصلته إلى أوروبا وأفريقيا البعيدتين كخبير تشفير (Cryptographer) للمراسلات العسكرية. ثم يُواصل راباسا عرضَ موقفه في قضايا شائكة مثل نظرية الترجمة (وهو ليس من مُعجبيها ولا معجبي منظّريها الأكاديميين الذين يراهم ديناصورات متغطرسة!)، ودور النشر الكبيرة التي يمقتها أيضاً، ووظيفة المترجم التي يراها ببساطة أن يتبع المترجم كلمات المؤلّف مع كلّ حمولتها الثقافية والسياقية. من جانب آخر يُبدي راباسا استخفافاً بتدريس الترجمة، ويكتب في هذا الشأن: «لقد حاولتُ تعليم ما لا يُمكن تعليمه. كما ذكرتُ سابقاً، يُمكنك شرح كيفية الترجمة؛ ولكن كيف يُمكنك أن تُملي على الطالب ما يقوله دون أن تُعبّر عنه أنت بنفسك؟ يُمكنك أن تُملي عليه أي كتاب يقرأه؛ ولكنك لا تستطيع قراءته نيابةً عنه». من المثير معرفةُ أنّ راباسا - وهو ما صرّح به في الكتاب - نادراً ما يقرأ الكتب التي يترجمها قبل البدء بالعمل عليها، مسوّغاً ذلك بالقول: «عندما أترجم كتاباً فأنا - ببساطة - لا أفعل شيئاً سوى قراءته باللغة الإنجليزية. الترجمة قراءة لو شئنا الدقّة». إلى جانب هذا يرى راباسا الترجمة فناً لا حرفة: «يمكنك تعليم بيكاسو كيفية خلط ألوانه؛ لكن لا يمكنك تعليمه كيفية رسم لوحاته».

القسم الثاني هو الجزء الأكثر ثراءً في مذكّرات راباسا. يناقش راباسا فيه ما يربو على ثلاثين مؤلفاً سبق له أن ترجم لهم. يتناولهم بترتيب زمني (كرونولوجي) مقصود لأن كل عمل ترك بصمته على الذي يليه بطريقة ما. يؤكّدُ راباسا في بداية هذا القسم أنّ تجربته الشخصية مع الترجمة أبعدُ ما تكون عن التعقيد أو الإزعاج. هو يتبع النص، يتركه ليقوده إلى حيث يتبيّنُ موطن التميّز والاختلاف فيه وربما حتى الابتكار الذي يميّز كل مؤلف عن سواه. يضيف راباسا في هذا الشأن: «يدعم هذا نظريتي بأنّ الترجمة الجيدة هي في الأساس قراءة جيّدة: إنْ عرفنا كيف نقرأ وفق ما ينبغي للنص فسنتمكّنُ من صياغة ما نقرأه في لغة أخرى بطريقتنا الخاصة. قد أتمادى وأقول نصوغه بكلماتنا الخاصة...».

يتذكّرُ راباسا بعض المؤلفين بمودّة كبيرة بعد أن التقى بالعديد منهم، وأصبح صديقاً حميماً لهم، أو حتى دَرَسَ أعمالهم عندما كان طالباً بعدُ. يُغدق راباسا بالثناء والتشبيهات على بعض هؤلاء الكتّاب: خوان بينيت مثلاً هو بروست إسبانيا، وغابرييل غارسيا ماركيز هو الوريث المباشر لثيربانتس، وكلاريس ليسبكتور كانت تُشبه مارلين ديتريش وتكتب كفيرجينيا وولف؛ لكنّ الحياة لم تحسن معاملتها كما تستحق. يميل راباسا إلى التقشّف والاختصار والمباشرة في كل شيء، وربما هذه بعض خصال المترجم الحاذق.

لن يكون أمراً غريباً أن يُكرّس راباسا صفحاتٍ أكثر لغابرييل غارسيا ماركيز من أي كاتبٍ آخر؛ فقد ترجم له ستاً من رواياته. يُقالُ إنّ غارسيا ماركيز كان يُفضّل ترجمة راباسا الإنجليزية على روايته الأصلية. وكما هو مُعتاد، يُقدّم راباسا هذا الإطراء بأسلوبٍ متواضعٍ مُميّز: «شعوري الغامض هو أن غابو (غابريل غارسيا ماركيز) كانت لديه بالفعل كلماتٌ إنجليزيةٌ مُختبئةٌ خلف الإسبانية، وكل ما كان عليّ فعله هو استخلاصها». برغم هذه الجودة الترجمية والمبيعات الهائلة لماركيز يصرّحُ راباسا في ملاحظة صغيرة أنّه لم يحصل على أيّ عائد مالي من ترجمة رواية «مائة عام من العزلة» التي كانت أوّل عمل ترجمه لماركيز.

تظهر المذكّرات وكأنّها عملُ شاعر بارع. إنها تبقيك متيقظاً كمن يلعب الشطرنج ويتوقّع كل حين نقلة غير متوقّعة

السياسة موضوع لا مفر منه مع أن راباسا لا يُكثِرُ من التطرق إليه. الواقعية السحرية (Magical Realism) ذلك المصطلح الذي يُثير جدلاً واسعاً كانت في ذهن راباسا دعوةً شعبيةً للحرية والعدالة. في موضع آخر، يذكر بإيجاز أن الواقعية السحرية كانت المقاربة الروائية التي دفعت كُتّاب أميركا اللاتينية إلى استكشاف الجوانب المظلمة في تاريخ القارة المنكوبة بالاستغلال والقهر الاجتماعي.

في القسم الثالث «القصير جداً. لا يتجاوز نصف الصفحة إلا بقليل»، يُدين راباسا خيانته المفترضة! هو يُعاني من المعاناة ذاتها التي يُعاني منها العديد من المترجمين: إنّه ببساطة لا يرضى أبداً عن عمله عندما يُراجعه. لا يُمكن للمرء أن يكون واثقاً من عمله أبداً.

انتقد البعض هذا الكتاب لكونه مغالياً في الاختصار؛ لكنني أظن أنً راباسا تقصّد هذا الاختصار. أما نجوم المذكّرات الحقيقية فهي الأعمال نفسها، سواء نصوص المؤلفين الأصلية الإسبانية أو البرتغالية أو ترجمات راباسا الإنجليزية لها. ومع أخذ ذلك في الاعتبار أشعر أنّ هذا الكتاب، على الرغم من روعته، يجب أن يأتي مع تحذير. لا يخدعنّك الاختصار أو التقشّف. إذا كنتَ ممّن يرى في الترجمة فعل مثاقفة رفيعة لا يحسنُها سوى العقل المسكون بالشغف والفضول المعرفي فقد لا يكون هذا الكتاب الصغير سهل القراءة أبداً.

«إذا كانت الترجمة خيانة»: مذكّرات غريغوري راباسّا (دار المدى 192 صفحة 2025)

OSZAR »