«رؤيا ملجأ العامرية»... الملحمة والأسطورة

قراءة في قصيدة حميد سعيد الأخيرة

حميد سعيد
حميد سعيد
TT

«رؤيا ملجأ العامرية»... الملحمة والأسطورة

حميد سعيد
حميد سعيد

ما زلنا نتعلم الكثير من شعر حميد سعيد الذي يفتح لنا آفاقاً جديدة في الكتابة والرؤية، كما في قصيدته الأخيرة «رؤيا ملجأ العامرية»، التي تستدعي فضاءً ملحمياً مشحوناً بالإرث البابلي والسومري، حيث يتماهى الخراب التاريخي مع الخراب المعاصر. يستعيد حميد سعيد سرديات الوعود والحرائق، ويربط مأساة ملجأ العامرية بتراجيديات الأساطير الرافدينية، كما يستحضر أنانا، الإلهة الأم والمعبودة الخصبة، ليعكس مفارقة العقم والموت التي جلبتها الحرب. هذه التناصات مع الميثولوجيا القديمة تجعل النص ملحمة حداثية، تسرد الخراب لا بوصفه حادثاً منفصلاً، بل كقدر متجدد ومتكرر.

والقصيدة لا تسير وفق نسق خطيّ، بل تتشظى بين الحاضر والماضي، بين ملجأ العامرية وأساطير بابل، بين حروب الجنود وصرخات الأطفال، بين الجحيم الأرضي والجنات الضائعة. هذا التشظي الزمني يخلق إحساساً باللازمنية، وكأن الدمار كيان ثابت يتنقل عبر العصور.

اللغة والصور الشعرية:

لغة القصيدة تفيض برمزية ثقيلة، تزاوج بين الواقع الحسي والأسطوري، فتصبح القنابل «شوْكَ القبور»، والدماء «زينات» الملجأ، والعواصف «تقطع أرحام البابليات». هذا التوظيف الكثيف للمجاز يجعل من الصور الشعرية حمولة دلالية عالية التأثير، تُحيل القارئ إلى تأمل المأساة عبر وسيط شعري يكثف الفاجعة دون أن يغرق في المباشرة الخطابية.

وتستخدم القصيدة ثنائية المقدس والمدنس بطريقة تناقضية، حيث تتداخل رموز الطهارة (المساجد، الصلاة، الأرحام، الطلع، وضوء أم البنين) مع أفعال الخراب والقتل والحرائق. وهذه الثنائية تعكس مأساة العصر الحديث، حيث تصبح الإيمان والطقوس بلا فاعلية أمام وحشية القوة العمياء.

ويبدو الشاعر في هذه القصيدة واعياً تماماً بالإرث الثقافي العالمي، حيث يُحيل إلى أعمال رامبو، وشكسبير، وماتيس، وفان جوخ، وموزارت، ودالي، وغيرهم. لكنه يضع هذه الرموز ضمن سياق من الشك، متسائلاً عن جدوى الحضارة الغربية التي أنتجت هذا الفن لكنها أيضاً أنتجت الحروب والدمار. هذه المقاربة تمنح القصيدة أفقاً فلسفياً يتجاوز البكائيات التقليدية إلى نقد حضاري شامل.

تقنيات الحداثة الشعرية:

تعتمد القصيدة على تقنيات الحداثة الشعرية مثل: التناص التاريخي والأسطوري: استحضار الميثولوجيا والتاريخ بطريقة جديدة، والتكرار الإيقاعي: كالتكرار المتواتر لعبارة «للبابليات وعد الحرائق»، مما يرسخ الإيقاع الكارثي، التشظي السردي: حيث تتداخل الأزمنة والأحداث دون تتابع خطي، التقابل بين المأساة والجمال: مثل الجمع بين رمزية الموت والألوان الفنية، والتأثير العاطفي والتلقي النقدي.

كذلك تمتلك القصيدة قوة وجدانية عميقة، فهي لا تقدم المأساة فقط كخبر أو سرد، بل تغمر القارئ في تفاصيلها الحسية، مما يجعلها تجربة جمالية مفعمة بالألم. نقدياً، يمكن وضعها ضمن الشعر الحداثي الذي يستلهم الملحمية ولكن بصياغة جديدة تخرجها من القوالب التقليدية إلى فضاء أكثر تجريبية وتأملاً.

الموسيقى الداخلية والإيقاع المتغير:

لم يلتزم حميد سعيد في هذه القصيدة ببحر واحد، بل انتقل بين أوزان مختلفة، وهو أسلوب يُستخدم في القصائد الطويلة ذات الطابع الملحمي، حيث يسمح التنويع الوزني بالتنقل بين المشاهد والتصاوير المختلفة، مما يخلق تناغماً موسيقياً يتناسب مع تدفق العواطف والأحداث. واستخدم الشاعر التكرار الإيقاعي، كما في «للبابليات وعد الحرائق»، وهو ما يعزز النغم الداخلي ويضفي بُعداً نشيدياً قريباً من الترانيم القديمة أو الأناشيد الدينية.

كما أن هناك تنوعاً في التفعيلات، حيث يبدأ أحياناً بإيقاع ثقيل حزين، ثم ينتقل إلى إيقاع أسرع أو أكثر حدّة، كأنه يحاكي وقع القنابل أو أنفاس الناجين المتقطعة، إضافة إلى استخدام الألفاظ الصوتية القوية التي تعزز الموسيقى، مثل «الجحيم»، «العواصف»، «النار»، «الخراب»، مما يجعل الإيقاع أكثر تأثيراً وقوة. وخلقت الوقفات العروضية غير المنتظمة توتراً موسيقياً، وهو ما ينسجم مع طبيعة القصيدة التي تصف حدثاً كارثياً يتسم بالتشظي والتوتر.

التأثير الموسيقي في التجربة الشعورية:

لا يمكن قراءة القصيدة دون الشعور بأن الموسيقى ليست مجرد زينة، بل هي عنصر جوهري في البناء الدرامي، فهي تعكس الصدمة، الألم، الحنين، وحتى السخرية أحياناً. هذه الموسيقى المتغيرة تجعل القارئ يعيش التجربة وكأنه يسمع صوت القنابل، صراخ الأطفال، أو حتى همسات الأمهات وهن يجمعن أشلاء أطفالهن. وهذا الأسلوب الموسيقي يقترب من القصائد الملحمية البابلية والسومرية، التي كانت تُنشد بتكرار عبارات معينة وبإيقاع متغير يتناسب مع طبيعة السرد، مما يعزز البعد الغنائي للقصيدة، وكأنها تُحاكي التراتيل الحزينة أو مراثي المدن الضائعة.

إجمالاً، الشاعر هنا لا يوظف الوزن والإيقاع كإطار خارجي فحسب، بل كمكوّن داخلي يعزز البنية الدلالية، ليجعل القارئ ليس فقط يقرأ المأساة، بل يسمعها ويشعر بها على مستوى موسيقي وروحي عميق.

الخاتمة:

قصيدة «رؤيا ملجأ العامرية» ليست مجرد رثاء لمأساة تاريخية، بل هي عمل شعري يتجاوز التوثيق إلى تأسيس رؤية فلسفية وأسطورية للمأساة. إنها قصيدة ملحمية بامتياز، تحمل صدى النواح البابلي وتراجيديات الشعوب المقهورة، لكنها في الوقت نفسه تُعيد مساءلة الحضارة برمتها، واضعة الفن والحرب في مواجهة ساخرة ومأساوية في آنٍ واحد.


مقالات ذات صلة

سمر يزبك توثّق «روايات أهل غزة عن الإبادة»

ثقافة وفنون شخص يجر ممتلكاته في شوارع مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة

سمر يزبك توثّق «روايات أهل غزة عن الإبادة»

قد تكون الروائية السورية سمر يزبك في كتابها الجديد الصادر عن «دار الآداب» حاملاً عنواناً واضحاً ودالاً، «ذاكرة النقصان/ روايات أهل غزة عن الإبادة» هو الكتاب...

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون «الخطط الست والثلاثون»... تراث الصين بين الحرب والفلسفة

«الخطط الست والثلاثون»... تراث الصين بين الحرب والفلسفة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدر كتاب «الخطط الست والثلاثون - الحيل السرية للحرب»، الذي ينتمي إلى التراث الصيني القديم

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «النفس والرواية»... العلاقات السيكولوجية بالأدب

«النفس والرواية»... العلاقات السيكولوجية بالأدب

صدر مؤخراً كتاب «النفس والرواية» للروائي السعودي عبد الله الوصالي، ويقع في 286 صفحة من القطع المتوسط.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «النقد الثقافي»... البحث عن سلطة النص

«النقد الثقافي»... البحث عن سلطة النص

ينتمي كتاب «النقد الثقافي: نحو منهجية التحليل الثقافي للأدب»، للناقد والأكاديمي المصري الدكتور محمد إبراهيم عبد العال، منذ عنوانه، إلى حقل النقد الثقافي.

عمر شهريار
كتب سلمان زين الدين يقرأ «أسئلة الرواية السعودية»

سلمان زين الدين يقرأ «أسئلة الرواية السعودية»

يرصد الشاعر والناقد اللبناني سلمان زين الدين في كتابه «أسئلة الرواية السعودية» تحولات المشهد الروائي السعودي

«الشرق الأوسط» (بيروت)

«عالم سمسم» يتجه إلى «نتفليكس» بعد سحب ترمب التمويل

عمل مؤسسا «عالم سمسم» لويد موريسيت وجوان جانز كوني مع مبتكر الدمى المتحركة جيم هنسون لابتكار شخصيات مثل «بيغ بيرد» (صفحة برنامج «عالم سمسم» عبر «فيسبوك»)
عمل مؤسسا «عالم سمسم» لويد موريسيت وجوان جانز كوني مع مبتكر الدمى المتحركة جيم هنسون لابتكار شخصيات مثل «بيغ بيرد» (صفحة برنامج «عالم سمسم» عبر «فيسبوك»)
TT

«عالم سمسم» يتجه إلى «نتفليكس» بعد سحب ترمب التمويل

عمل مؤسسا «عالم سمسم» لويد موريسيت وجوان جانز كوني مع مبتكر الدمى المتحركة جيم هنسون لابتكار شخصيات مثل «بيغ بيرد» (صفحة برنامج «عالم سمسم» عبر «فيسبوك»)
عمل مؤسسا «عالم سمسم» لويد موريسيت وجوان جانز كوني مع مبتكر الدمى المتحركة جيم هنسون لابتكار شخصيات مثل «بيغ بيرد» (صفحة برنامج «عالم سمسم» عبر «فيسبوك»)

أبرم برنامج «عالم سمسم» و«نتفليكس» اتفاقاً سيشهد عرض البرنامج التلفزيوني الشهير على منصة البث، بعد أن سحب الرئيس الأميركي دونالد ترمب تمويل قناة «بي بي إس» (PBS) ذات البث المجاني.

وقالت «نتفليكس» إن البرنامج الشهير هو «حجر زاوية محبوب في وسائل الإعلام الخاصة بالأطفال، ويسحر عقول الصغار ويغذي حب التعلم».

وستقدم «نتفليكس» لمشتركيها البالغ عددهم 300 مليون مشترك موسماً جديداً من البرنامج و90 ساعة من الحلقات السابقة، وسيظل متاحاً أيضاً على قناة «بي بي إس».

كان «عالم سمسم» يواجه مستقبلاً غامضاً بعد عدم تجديد شركة الترفيه العملاقة «وارنر بروس ديسكفري» المالكة لمنصة «إتش بي أو» (HBO)، اتفاقها مع البرنامج الذي يعود إلى نصف قرن من الزمن.

وفي وقتٍ سابق من هذا الشهر، أصدر ترمب أمراً تنفيذياً بمنع التمويل الفيدرالي لشبكة «بي بي إس» وشبكة الإذاعة الوطنية العامة (NPR)، زاعماً أنهما منخرطتان في «تغطية إخبارية متحيزة وحزبية».

ومنذ ذلك الحين، أعلنت «هيئة الإذاعة العامة» الحكومية، التي كانت تدعم القناتين، عن إنهاء مبادرة فيدرالية كانت تمول برامج للأطفال، بما في ذلك برنامج «عالم سمسم».

وبموجب الاتفاق، ستحصل «هيئة الإذاعة العامة» على إمكانية الوصول إلى حلقات «عالم سمسم» في يوم عرضها نفسه على «نتفليكس».

في أواخر ستينات القرن العشرين، تقدم مؤسسا «عالم سمسم» لويد موريسيت وجوان جانز كوني إلى كلية الدراسات العليا في التربية بجامعة هارفارد بطريقة جديدة لتعليم الأطفال الأميركيين.

شخصيات من «عالم سمسم» (صفحة برنامج «عالم سمسم» عبر «فيسبوك»)

وعمل فريق بقيادة اختصاصي علم نفس تنموي مع مؤسسي «عالم سمسم» لتحليل علم نفس الطفولة وإنتاج دروس مسلية.

كما عملوا مع مبتكر الدمى المتحركة جيم هنسون لابتكار شخصيات مثل «بيغ بيرد»، مع تصميم ديكور يشبه شارع بالمدينة.

ومنذ بثه لأول مرة في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 1969، كبر ملايين الأطفال مع لحن البرنامج «هل يمكنك أن تخبرني كيف أصل، كيف أصل إلى عالم سمسم».

على مر العقود، اكتسب البرنامج وشخصياته حياة خارج الشاشة الصغيرة.

دخلت شخصية «إلمو» الشهيرة إلى دائرة الضوء في مجال السياسة العامة في عام 2002، عندما دُعي لمناقشة التعليم الموسيقي في الكونغرس.

وخلال تفشي وباء السمنة لدى الأطفال في الولايات المتحدة في عام 2006، بثّ برنامج «عالم سمسم» فقرات عن العادات الصحية مصممة لتعليم الأطفال النظام الغذائي وممارسة الرياضة.

السيدة الأولى السابقة ميشيل أوباما تزور ستوديوهات «سمسم» في الذكرى الخمسين لانطلاق البرنامج يوم 30 مايو 2019 (حسابها عبر منصة «إكس»)

أعلن «وحش البسكويت» أن البسكويت «طعاماً لبعض الوقت» وعلّم الأطفال عن النظام الغذائي المتوازن.

كما زارت السيدة الأولى السابقة ميشيل أوباما استوديوهات «سمسم» لتصوير فقرة عن الأكل الصحي.

تعمل «نتفليكس» على زيادة تركيزها على محتوى الأطفال الذي يمثل 15 في المائة من المشاهدة على خدمتها.

OSZAR »