في مجموعته القصصية «عين سحرية تطل على خرابة»، يسعى الروائي والقاص المصري أحمد عامر إلى رؤية الواقع بعيون أبطاله المأزومين المهزومين، معتمداً على قدر كبير من التجريب واللعب التقني، إذ تتراجع الحكاية إلى خلفية الاهتمام، في مقابل بروز التقنية بجلاء، معلنة أنها مركز الاهتمام والثقل في كل قصص المجموعة تقريباً.
في كل قصة لن نجد حكاية ممتدة، لها بداية ووسط ونهاية، بقدر ما نجد خطوطاً متقاطعة بين وصف الواقع من ناحية، ومشاعر الأبطال الداخلية حيناً آخر، وحديثهم إلى أنفسهم أو إلى آخرين حيناً ثالثاً، دون منطق سببي واضح، فلا حدث يفضي إلى آخر، بل ضربات فرشاة عشوائية - أو هكذا تبدو للوهلة الأولى - في لوحة سوريالية، لكن هذه الخطوط غير المنتظمة، ستدخلك في حالة شعورية ما، أكثر مما ستمنحك معنى محدداً، أو حكاية مكتملة، وهذا ما يسعى له الكاتب. إنها مجموعة تخاصم الحكاية بشكلها التقليدي، وتنحاز أكثر إلى النتف المتفرقة.
يعتمد الكاتب في أغلب قصص المجموعة على تقنية تيار الوعي، ومن ثم لا يحكم السرد نسق معين متصاعد، بل تأتي الأحداث بشكل يبدو عشوائياً، بين استدعاءات لماض، أو استبطان للشخصية، أو وصف لبؤس الواقع، ويختلط فيه المنحى الواقعي بالعجائبي، والذاتي بالسياسي، والرومانسي بالآيديولوجي، فالعوالم تتداخل وتتشابك وتتعقد، لتشكل في النهاية لوحة غرائبية من ألوان متداخلة. ويبدو أن ثمة خيطاً ممتداً يصل أحمد عامر بسلفه الكاتب الكبير الراحل محمد حافظ رجب، أحد رواد التجريب في القصة المصرية القصيرة، فتبدو هذه المجموعة إحياء لهذا المسار السردي الذي اشتهر به رجب، ولم يأخذ حقه من الاهتمام.
المجموعة التي صدرت أخيراً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في القاهرة، تنقسم إلى قسمين، الأول بلا عنوان رئيس، ويتكون من خمس عشرة قصة طويلة، والثاني عنوانه «مشاهد عادية لا تستحق التأمل»، ويتكون من خمس قصص قصيرة جداً. يهيمن على القسم الأول الحس الكابوسي، إذ يعيش أبطاله في كوابيس ممتدة ومتداخلة، سواء في حاضرهم أو ذكرياتهم التي يستدعونها، فالواقع بكل ما فيه من عطن وتفسخ يبدو كابوساً دائماً يحاصر كل أبطال القصص، ويبدو العالم كصخرة جاثمة على صدور هؤلاء الأبطال وقلوبهم، تمنعهم من الحراك، ولا أمل لهم في الانفلات من ثقله. إنهم شخوص سقطوا في فخ الانهزام الوجودي الذي أفقدهم أرواحهم.
يقدم عامر، في كل قصص المجموعة تقريباً، رغم تغير الشخوص من قصة لأخرى، نموذج البطل الضد، المأزوم، المهزوم، غير الطامح في تغيير عالمه وواقعه، فاليأس متمكن من كل شخوصه، وأحكم سيطرته عليهم، حتى إنه كثيراً ما يقدم هؤلاء الشخوص بوصفهم «جثثاً» تتنفس وتتحرك في الشوارع، ولكنهم لا يتحركون بإرادتهم، بل تدفعهم الجموع التي تدهسهم في طريقهم، وتسحقهم الظروف التي يعيشون فيها، فحتى هذه الحركة هي في حقيقتها نوع من العجز، لكن هؤلاء الأبطال يعون عجزهم جداً، فهم دائماً يملكون قدراً من الوعي والثقافة يجعلهم قادرين على رؤية عجزهم وقصورهم الذاتي، لكنهم في المقابل لا يملكون القدرة على تجاوزه ومقاومته، فينقلب على ذاته لتدميرها.
يمثل الخراب مركز الثقل الدلالي في عنوان المجموعة، ويحمل دلالتين متناقضتين معاً، لكنهما يكملان بعضهما، الدلالة الأولى تصور الخراب الذي يكتنف العالم المعاصر، بكل ماديته وصراعاته. أما الدلالة الثانية فهي الخراب الذي يكتنف ذوات الأبطال أنفسهم، فداخل بطل كل قصة خرابة كبيرة، روحياً وجسدياً وعقلياً. والعين السحرية هي عين الثقافة والوعي، التي ينظر بها الشخوص إلى خراب العالم من حولهم، أو إلى خراب أنفسهم. ولكي تكتمل ملامح البطل الضد، فإن المؤلف يصوغ أبطاله وصفاتهم بما يجعلهم كائنات فقدت جوهر إنسانيتها، عندما فقدت أي قدرة على الفعل، إنهم مجرد أجساد مريضة وعقول معطوبة، وأرواح خربة.
للجسد حضور باذخ في المجموعة، لكنه يأتي عاكساً الدلالات الكابوسية والأزمات الوجودية التي يعاني منها الشخوص، حتى إنهم يتعايشون معها كعبء، أو شيء زائد يثقلهم، ويتوقون للتخلص منه ومن ثقله، وكثيراً ما يسعى الآخرون لاستنزاف هذا الجسد، ففي قصة «ثلاث شمعات وبعض الحلوى لعيد ميلاد الطفل»، مثلاً، نراه يقول «تحسس يده، يبحث عن خرطوم وهمي ممدود من ذراعه إلى جهات كثيرة، دمه يندفع قوياً ساخناً إلى الأفواه الكثيرة المفتوحة»، أو «يلقي بجسده وسط الشارع الضيق». وإذا كان البطل في صراع مع العالم، وأيضاً في صراع مع ذاته وأعطابها، فإنه أيضاً لا يعدم الصراع مع الزمن، فقد دهسه الماضي، ويواصل الحاضر القضاء على ما تبقى منه، فيتحول الزمن والوجود إلى سجن إضافي يتوق الشخوص للإفلات من قبضته، دون قدرة حقيقية على تحقيق هذا التحرر.
ورغم الأجواء الكابوسية، تبدو المجموعة حافلة بالمفارقات. فتأتي عناوين القصص مفعمة بالشاعرية، بل إن أبطال بعض القصص كانوا شعراء بالفعل، كما في قصة «الشاعر يتعلم فن التنكر قبل أن يعتزل»، وتتوالى العناوين المسكونة بروح شاعرية مثل: «وردة معتقلة في كتاب»، و«ابتسامة شاحبة لقمر مريض»، و«أسباب غير مقنعة للعزلة». ورغم ما يبدو من سيطرة العجز على الشخوص فإن هناك نقاط نور تظل تعلن عن نفسها في معظم قصص هذه المجموعة الشيقة، تتمثل في الأبناء حيناً، أو الحب بوصفه قيمة حيناً آخر.