100 يوم على رئاسة أحمد الشرع... سوريا في ميزان الربح والخسارة

إرث جسيم على كاهل أي حكم سياسي يخلف الأسد

سوريون يتابعون كلمة أحمد الشرع في مقهى الروضة الدمشقي (الشرق الأوسط)
سوريون يتابعون كلمة أحمد الشرع في مقهى الروضة الدمشقي (الشرق الأوسط)
TT

100 يوم على رئاسة أحمد الشرع... سوريا في ميزان الربح والخسارة

سوريون يتابعون كلمة أحمد الشرع في مقهى الروضة الدمشقي (الشرق الأوسط)
سوريون يتابعون كلمة أحمد الشرع في مقهى الروضة الدمشقي (الشرق الأوسط)

أثار سقوط نظام الأسد في ديسمبر (كانون الأول) 2024 في البداية آمالاً كبيرة بمستقبل أفضل في سوريا. فما التقييم السياسي للسلطة الحاكمة الجديدة برئاسة أحمد الشرع وحلفائه بعد 100 يوم في الحكم؟

قبل الخوض في التفاصيل، علينا أن ندرك أن التحديات التي تواجه سوريا اليوم هائلة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فالبلاد مجزأة إقليمياً وسياسياً، وتتأثر بالنفوذ والاحتلال الأجنبي بمختلف أشكاله، بالإضافة إلى تحديات اقتصادية ضخمة. في الواقع، تُقدر تكلفة إعادة الإعمار في سوريا بما يتراوح بين 250 و400 مليار دولار، ولا يزال أكثر من نصف السوريين نازحين داخل البلاد وخارجها. ويعيش 90 في المائة من السكان تحت خط الفقر، ويعتمد 16.7 مليون شخص (أي 3 من كل 4 أشخاص في سوريا) على المساعدات الإنسانية، وفق أرقام الأمم المتحدة لعام 2024. بالنظر إلى هذه المعطيات، يواجه أي فاعل سياسي يخلف نظام الأسد مهمة جسيمة.

لذلك، فإن قدرة السلطة الحاكمة الجديدة، لا سيما بالنظر إلى خلفيتها، على تهدئة المخاوف الخارجية ولو نسبياً وإقامة علاقات رسمية مع القوى الإقليمية والدولية، تُعدّ نجاحاً لا يُستهان به. فقد اعترف العديد من الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية بالسلطة الجديدة، وبدأت التعامل معها. وقد علّق كل من الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة العقوبات بشكل ملحوظ على بعض القطاعات والكيانات، وها هي باريس اليوم تستقبل الشرع لديها.

يبقى أن الإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترمب لم تُحدد سياسة واضحة تجاه سوريا بعد، وأبقت على عقوباتها المفروضة عليها بشكل عام، على الرغم من عدم معارضتها لإجراءات إدارة بايدن في يناير (كانون الثاني) 2025، التي خففت العقوبات على قطاع الطاقة والتعاملات المالية.

مع ذلك، لا يمكن اعتبار المائة يوم الأولى من حكم السلطة الجديدة إيجابية بشكل مطلق، أو دليلاً كافياً على أن البلاد تسير في الاتجاه الصحيح على المدى الطويل، إذ تكمن المشكلة الأساسية في التوجهات العامة على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وكذلك في رؤيتها الاجتماعية.

محل لبيع التذكارات وسط دمشق (أ.ف.ب)

مؤسسات الدولة والأجهزة الأمنية

أولاً، استخدمت السلطة الحاكمة الجديدة بقيادة «هيئة تحرير الشام»، المرحلة الانتقالية لتعزيز سلطتها على مؤسسات الدولة، فبعد سقوط نظام الأسد، تشكّلت حكومة تصريف أعمال من أعضاء الهيئة حصراً أو المقربين منها، وذلك حتى تشكيل حكومة جديدة في نهاية مارس (آذار) 2025.

وبالمثل، رشح الشرع وزراء جدداً، وشخصيات أمنية، ومحافظين لمختلف المناطق ممن كانوا في الهيئة أو الجماعات المسلحة المقربة منها. وإلى جانب الأجهزة الأمنية، أنشأت السلطات الحاكمة الجديدة جيشاً سوريّاً جديداً، وعينوا قادة من «هيئة تحرير الشام» سابقاً من بين أعلى الضباط رتبة، مثل وزير الدفاع الجديد القائد الأعلى للهيئة منذ فترة طويلة مرهف أبو قصرة الذي رُقي إلى رتبة الجنرال. وبالتزامن مع ذلك، فرضت السلطة الحاكمة الجديدة تدابير لتعزيز سيطرتها على الجهات الفاعلة الاقتصادية والاجتماعية. فعلى سبيل المثال، عيّنت السلطة قيادات جديدة من دائرة المقربين في عدد من النقابات والجمعيات المهنية والغرف التجارة حتى من دون انتخابات داخلية.

صورة تذكارية للحكومة السورية الجديدة يتوسطها الرئيس الشرع بعد الإعلان عنها في قصر الشعب بدمشق (سانا)

وانعكس غياب العملية الديمقراطية الشاملة على مختلف المبادرات والمؤتمرات واللجان التي كان من المفترض أن تكون تشاركية، وتضع الأسس الأولى لمستقبل البلاد، وعلى رأسها «مؤتمر الحوار الوطني السوري»، الذي تعرّض لانتقادات لافتقاره إلى التحضير والتمثيل، لا سيما لجهة ضيق الوقت المخصص للجلسات.

كما تعرّض الدستور المؤقت، الذي وقّعه الرئيس السوري، لانتقادات واسعة من قبل العديد من الجهات السياسية والاجتماعية الفاعلة، بداية بسبب نقص الشفافية في معايير اختيار لجنة الصياغة أو في محتوياتها. وفيما يعلن الدستور المؤقت رسمياً فصل السلطات، فإنه عملياً يعوق ذلك من خلال النطاق الواسع للسلطات المحصورة بيد الرئاسة.

صلاحيات ضبابية

في هذا السياق، وُصف الإعلان الأخير عن الحكومة السورية الجديدة بأنه أكثر شمولاً، مع تعيين وزيرة ووزراء من الأقليات الدينية (علوية ودرزية) والعرقية (كردية). ومع ذلك، فإن المناصب الرئيسية تشغلها شخصيات مقربة من الشرع، فعلى سبيل المثال، يحتفظ أسعد الشيباني ومرشد أبو قصرة بمنصبيهما في وزارتي الخارجية والدفاع على التوالي، في حين تم تعيين أنس خطاب في وزارة الداخلية، ومزهر الويس في وزارة العدل.

علاوة على ذلك، لا تزال الصلاحيات الفعلية لهذه الحكومة غير واضحة، خاصة أنه تم تشكيل «مجلس الأمن القومي السوري»، ويرأسه أحمد الشرع، بهدف تنسيق وإدارة السياسات الأمنية والسياسية بالبلاد.

وعلى نحو مماثل، تم إنشاء «الأمانة العامة للشؤون السياسية» في نهاية مارس (آذار) تحت وزارة الخارجية، ومن مهامها الإشراف على إدارة النشاطات والفعاليات السياسية، والمشاركة في صياغة ورسم الخطط العامة في الشأن السياسي، وإعادة توظيف أصول حزب «البعث»، وأحزاب «الجبهة الوطنية التقدمية».

الرئيس السوري أحمد الشرع يحضر توقيع عقد بين الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية وشركة فرنسية في قصر الشعب في دمشق (أ.ف.ب)

اقتصاد نيوليبرالي

أما على الصعيد الاقتصادي، فلم يُناقش توجه الحكومة أو يُشارك فيه أحد خارج دوائرها المقربة. علاوة على ذلك، تتجاوز قرارات حكومة الحالية منذ أن استلمت السلطة، مهمتها المؤقتة، وعملياً فرضت أو روَّجت لرؤيتها الاقتصادية الخاصة بوصفها نموذجاً مستقبلياً لسوريا على المدى الطويل، وهو نموذج متجذر في النيوليبرالية الاقتصادية. ويظهر ذلك من خلال خصخصة أصول الدولة، وتحرير السوق، وإجراءات التقشف، بما في ذلك خفض دعم الخبز وأسطوانة الغاز المنزلي، وكلها تؤثر بشكل مباشر على الطبقات الشعبية التي تعاني أصلاً. ويُصب عادة هذا النوع من السياسات الاقتصادية في مصلحة رجال الأعمال والنخب الاقتصادية.

إضافةً إلى ذلك، أعلنت وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية عن تسريح نحو ثلث القوى العاملة في الدولة، أي الموظفين الذين كانوا، وفقاً السلطة الجديدة، «يتقاضون رواتبهم لكنهم لا يعملون». ومنذ ذلك الحين، لا توجد تقديرات رسمية لإجمالي عدد الموظفين المفصولين، في حين يقضي بعضهم حالياً إجازة مدفوعة الأجر لمدة 3 أشهر ريثما يتضح وضعهم، وما إذا كانوا يعملون أم لا. وعقب هذا القرار، اندلعت احتجاجات العمال المفصولين أو الموقوفين عن العمل في جميع أنحاء البلاد.

محل لصرف العملات الأجنبية في دمشق (أ.ف.ب)

في الوقت نفسه، تكررت وعود السلطات الحاكمة الجديدة منذ بداية العام بزيادة رواتب موظفي الدولة بنسبة 400 في المائة، ليصبح الحد الأدنى 1.123.560 ليرة سورية (نحو 86 دولاراً أميركياً). وتُعدّ هذه خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنها لا تزال تنتظر التنفيذ، كما أنها لا تكفي لتغطية نفقات المعيشة، في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية. وقدّر الحد الأدنى للنفقات الشهرية لأسرة مكونة من 5 أفراد في دمشق بنهاية مارس (آذار) 2025 بـ8 ملايين ليرة سورية (ما يعادل 666 دولاراً أميركياً).

فضلاً عن ذلك، خفّضت دمشق الرسوم الجمركية على أكثر من 260 منتجاً تركياً، ما أضرّ بالإنتاج الوطني، خصوصاً في قطاعي الصناعة والزراعة، اللذين يعانيان من منافسة الواردات التركية أصلاً. وبلغت الصادرات التركية إلى سوريا في الربع الأول من العام الحالي نحو 508 ملايين دولار، بزيادة قدرها 31.2 في المائة، مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024 (نحو 387 مليون دولار)، وفقاً لوزارة التجارة التركية.

تشرذم سياسي - اجتماعي

أما التشرذم السياسي والاجتماعي في البلاد، فلم تتمكن السلطة الحاكمة الجديدة إلى حد كبير من معالجته، ولا تزال مذكرة التفاهم الأخيرة بين حكومة دمشق والإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، ومحاولات التقارب مع بعض قطاعات السكان الدروز في منطقة السويداء تعاني العديد من أوجه القصور، ومعارضة المجتمعات المحلية، التي شهدت على سبيل المثال مظاهرات ترفض الدستور المؤقت وسياسات متعددة. وإلى ذلك فإن الأحداث الأمنية الأخيرة، وتلك التي بدأت في المناطق الساحلية، والتي أسفرت عن مقتل مئات من المدنيين، لم تؤدِّ إلا إلى تعميق التوترات الطائفية.

احتفالات في القامشلي بعد توقيع «قسد» اتفاقاً يقضي بالاندماج في مؤسسات الدولة السورية الجديدة مارس 2025 (رويترز)

وصحيح أن أعمال العنف جاءت بعد عنف نفذه فلول نظام الأسد الذين نسقوا الهجمات ضد أفراد الأجهزة الأمنية والمدنيين، لكن بذريعة محاربة «الفلول» طغى منطق الكراهية والانتقام، من خلال خلق تكافؤ زائف بين العلويين عموماً والنظام السابق.

ورغم أن السلطة الجديدة حاولت تطويق الأزمة وإخماد النيران فإنها عملياً فشلت في منع تصاعد العنف والتناحر الطائفي اللذين انعكسا أيضاً في الأحداث الأخيرة مع أبناء الطائفة، وواصلت السلطة في دمشق وصف هذه الأعمال بأنها معزولة، وأنها صادرة عن «عناصر غير منضبطين» من دون اتخاذ أي إجراءات جدية لمحاسبة مرتكبيها.

رجال أمن عند حاجز تفتيش على أحد مداخل جرمانا جنوب دمشق الأربعاء الماضي (أ.ب)

وإلى جانب الديناميكيات الطائفية الكامنة في البلاد التي أسهمت الأحداث الدرامية الأخيرة في إعلائها على السطح، جاء الفشل في إنشاء آلية واضحة تُعزز عملية عدالة انتقالية شاملة وطويلة الأمد، تهدف إلى معاقبة جميع الأفراد والجماعات المتورطة في جرائم الحرب. وكان من الممكن أن يلعب ذلك دوراً حاسماً في مكافحة أعمال الانتقام، وتصاعد التوتر الطائفي، ولكن الآلية للعدالة الانتقالية بشكلها الصحيح قد تفتح ملفات كثيرة لا ترغب السلطة الحالية فيها.

مصالح إيران وإسرائيل وتركيا

وفي ظل هذا السياق من تفتت السلطة داخل البلاد، فإن بعض الدول الأجنبية، خاصة إيران وإسرائيل، لديها مصلحة في تأجيج التوترات الطائفية والإثنية في البلاد من أجل استغلالها، عبر تقديم نفسها بصفتها مدافعة عن طائفة معينة وخلق مزيد من عدم الاستقرار. وعلى سبيل المثال، ضاعف المسؤولون الإسرائيليون التصريحات التي تؤكد استعدادهم للتدخل عسكرياً من أجل «حماية» السكان الدروز في سوريا. ومع ذلك، رفضت القوى الاجتماعية والسياسية الدرزية الرئيسية هذه الدعوات إلى حد كبير، وأكدت انتماءها إلى سوريا ووحدة البلاد.

مظاهرة في مدينة حماة ضد التدخل الإسرائيلي في سوريا (رويترز)

في الوقت نفسه، لم يوقف الجيش التركي هجماته على مناطق الأكراد في شمال شرقي سوريا، على رغم الاتفاق المبرم بين دمشق والإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.

وفي الختام، فإن ممارسات الأيام المائة الأولى للسلطة الجديدة حملت ضمناً مقومات تقويض تفاؤل البدايات.

 

 

 

 

 


مقالات ذات صلة

محمد بن زايد والشرع يبحثان العلاقات الثنائية والتطورات الإقليمية

الخليج الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات والرئيس السوري أحمد الشرع (وام)

محمد بن زايد والشرع يبحثان العلاقات الثنائية والتطورات الإقليمية

بحث الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات، والرئيس السوري أحمد الشرع العلاقات الأخوية بين البلدين وسبل تعزيز التعاون المشترك بما يخدم مصالح الشعبين.

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)
الخليج الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي (الشرق الأوسط)

محمد بن سلمان والشرع يبحثان المستجدات في سوريا

بحث الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، مع الرئيس السوري أحمد الشرع، السبت، مستجدات الأحداث في سوريا، فضلاً عن استعراض كل الجهود الداعمة لأمنها واستقرارها.

«الشرق الأوسط» (جدة)
المشرق العربي من الاجتماع الخماسي لسوريا ودول الجوار في العاصمة الأردنية عمان في 9 مارس (الخارجية التركية)

اجتماع لوزراء خارجية تركيا وسوريا والأردن لبحث القضايا الأمنية والتطورات الإقليمية 

يعقد في أنقرة، الاثنين، اجتماع ثلاثي لوزراء خارجية تركيا والأردن وسوريا لبحث التطورات في المنطقة والوضع الأمني في ظل التصعيد الإسرائيلي.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي توسع رقعة الحرائق بغابات ربيعة في جبل التركمان ريف اللاذقية الأحد (الدفاع المدني السوري)

تركيا تستجيب للمشاركة بإطفاء الحرائق في اليوم الخامس على اندلاعها بريف اللاذقية

لليوم الخامس على التوالي ما زالت فرق الدفاع المدني السوري تحاول السيطرة على الحرائق المندلعة بحراج منطقة ربيعة بريف اللاذقية

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني مع نظيره البحريني عبد اللطيف الزياني خلال مؤتمر صحافي في المنامة (وكالة أنباء البحرين)

وزير خارجية سوريا: ملتزمون بوحدة البلاد أرضاً وشعباً ونرفض أي تدخل خارجي

أكد وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، الالتزام بوحدة سوريا، أرضاً وشعباً، والرفض القاطع لأي تدخل خارجي يسعى لتجزئتها أو تفكيكها.

«الشرق الأوسط» (المنامة)

روسيا «الخاسرة» في سوريا تعيد ترتيب أوراقها: طي صفحة الأسد والتعامل مع واقع جديد

لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع مع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف في دمشق نهاية يناير الماضي (روسيا اليوم)
لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع مع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف في دمشق نهاية يناير الماضي (روسيا اليوم)
TT

روسيا «الخاسرة» في سوريا تعيد ترتيب أوراقها: طي صفحة الأسد والتعامل مع واقع جديد

لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع مع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف في دمشق نهاية يناير الماضي (روسيا اليوم)
لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع مع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف في دمشق نهاية يناير الماضي (روسيا اليوم)

لم يكن قد مر أسبوعان على إطاحة نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، في دمشق، وتسلم «أعداء الأمس»، مقاليد السلطة، حين أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عبارته الشهيرة: «لم نُهزم في سوريا، وحققنا كل أهدافنا».

كانت موسكو تلتقط أنفاسها بعد التطور الكبير والمفاجئ الذي قلب الموازين وغيّر الخرائط التي حرصت على تكريسها لسنوات مع شركائها في «محور آستانة». الرواية الرسمية ركَّزت على أن نقل الأسد إلى موسكو جاء نتيجة لـ«توافقات» شملت أيضاً إلقاء الجيش السلاح، وفتح المدن واحدةً تلو الأخرى أمام قوات المعارضة، بهدف «حقن الدماء وعدم السماح باندلاع حرب أهلية طاحنة»، لكنَّ ترديد هذه الرواية لم يمنع من حشر روسيا إلى جانب إيران في معسكر الخاسرين المباشرين.

وعبارة بوتين كانت موجَّهة بالدرجة الأولى للرد على تقارير استخباراتية غربية أفردت مساحات لإحصاء خسائر روسيا المحتملة بعد إطاحة حليفها، ومستوى التراجع المتوقَّع للنفوذ الروسي في المنطقة، في حين نشطت الدوائر الروسية على المستويين العسكري - الاستخباراتي والدبلوماسي في محاولة تلمُّس ملامح الواقع الجديد وتحديد آليات التعامل معه.

أولويات موسكو

تريَّث الكرملين طويلاً في إعلان موقف محدَّد حيال الوضع الجديد في سوريا. وقبل أن يُجري بوتين مكالمته الهاتفية الأولى مع الرئيس أحمد الشرع، في فبراير (شباط) الماضي، كانت موسكو قد أجرت جولات من المحادثات مع تركيا وإيران وأطراف إقليمية أخرى. وأعلنت أن اتصالاتها مع القيادة الجديدة تجري عبر قنوات دبلوماسية وعسكرية، في إشارة إلى قناتَي السفارة الروسية في دمشق وممثلي القوات الروسية في قاعدة «حميميم».

وفي يناير (كانون الثاني) قام ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية ومبعوث الرئيس الروسي إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بزيارة لدمشق كانت الأولى لمسؤول روسي بعد إطاحة الأسد. وأعلن الدبلوماسي الروسي المخضرم بعد جولة حوار مع القيادة السورية أنه أجرى «محادثات بنَّاءة وإيجابية». ومن نتائج الزيارة أنها نجحت في «إذابة الجليد» بين الطرفين، وأطلقت مسار التفاوض حول ترتيب جديد للعلاقة بينهما.

جندي روسي على مركبة قتالية للمشاة ضمن قافلة عسكرية روسية متجهة إلى قاعدة حميميم الجوية في اللاذقية على ساحل سوريا 14 ديسمبر الماضي (رويترز)

وقدمت دمشق عدة مطالب للقيادة الروسية؛ بينها المساعدة في تطبيق مبدأ العدالة الانتقالية عبر رفع الغطاء عن رموز النظام السابق، وإعادة الأموال المنهوبة التي تقول تقارير -نفت موسكو صحتها- إنه تم تهريبها إلى روسيا في وقت سابق.

وأبدت دمشق استعداداً لمناقشة أسس جديدة للوجود العسكري الروسي في قاعدتي «حميميم» الجوية و«طرطوس» البحرية.

من جهتها أكدت موسكو استعدادها لأداء دور إيجابي نشط في ملف الحوار السوري الداخلي، وترتيب الوضع في المرحلة الانتقالية، واستخدام نفوذها بصفتها عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي للمساهمة في رفع العقوبات المفروضة على دمشق. كما تحدثت موسكو عن استعداد للمساهمة في إعادة تأهيل البنى التحتية السورية، وألمحت إلى احتمال إعفاء دمشق من الديون المستحقة لموسكو في إطار مساعدة السلطات الجديدة على مواجهة التحديات الاقتصادية والمعيشية.

وبدا أن أولويات موسكو تقوم على المحافظة على الوجود العسكري الروسي في سوريا في هذه المرحلة على الأقل. ليس فقط بسبب الأهمية المعنوية والرمزية التي تكرِّس عدم تعرض المشروع الروسي لهزيمة كبرى في سوريا، بل لأن هذا الوجود بات يحظى بأهمية خاصة لتسيير عمليات الإمداد الروسية والاحتياجات اللوجيستية إلى القارة الأفريقية ومناطق عدة، مما يعني أن تعرض عمليات موسكو البحرية والجوية في هذه المرحلة لهزة في البحر المتوسط من شأنه أن يكون مكلفاً جداً للكرملين خصوصاً على خلفية استمرار الصراع في أوكرانيا، والمواجهة المتفاقمة مع الغرب عموماً.

العلامة الثانية الفارقة هنا، برزت في الحاجة الروسية إلى فهم آليات تعامل السلطة السورية الجديدة مع الضغوط الغربية التي تدفع إلى التباعد مع موسكو، وإنهاء الوجود العسكري الروسي. وبرزت إشارات مريحة من خلال تأكيد دمشق أكثر من مرة استعدادها لمناقشة آليات جديدة للتعاون، وعدم رغبتها في الانجرار نحو مواجهات مع أي طرف.

منعطف الساحل

بدا أن التريث الروسي كان مدفوعاً برغبة في تلمس آفاق التطورات المحتملة في دمشق وحولها، على خلفية بطء السلطات السورية في إقرار خطوات واضحة للمصالحة الداخلية وتطبيع الوضع مع المكونات وإطلاق مسار الترتيب القانوني والدستوري لهيئات السلطة الحاكمة.

عنصر في العمليات العسكرية السورية أمام مدخل قاعدة حميميم الروسية في محافظة اللاذقية... 29 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لذلك، لم تشكل التطورات الدامية في الساحل، مفاجأة لموسكو. خصوصاً أن معطياتٍ أشارت إلى أن بعض رموز النظام السابق الذين يتحركون بحرية في روسيا، أدَّوا أدواراً في تشجيع التحرك العسكري لبعض المجموعات. وأشارت معلومات إلى أن رجال أعمال موجودين في روسيا دعموا التحرك مالياً. لكن هذا لا يعني أن موسكو لعبت دوراً مباشراً في تأجيج الوضع. وعلى العكس من ذلك، فقط نفت مصادر دبلوماسية تحدثت إليها «الشرق الأوسط» وجود أي علاقة لموسكو في هذا التطور. وتشير مصادر هنا إلى أن موسكو لا مصلحة مباشرة لها في إشعال فتيل حرب داخلية في سوريا تهدد مسار مفاوضاتها مع السلطات القائمة. كما أن فكرة انفصال أجزاء من سوريا خصوصاً في منطقة الساحل وبناء ما يسمى «إقليم عَلَويّ» من شأنها أن تضر على المدى البعيد بمصالح روسيا وفق تأكيد خبراء دبلوماسيين وعسكريين.

قد يكون هذا واحداً من الأسباب المباشرة التي دعت بوتين إلى توجيه رسالة لافتة إلى نظيره السوري في أبريل (نيسان)، حملت في لهجتها وتوقيتها دلالات مهمة للغاية.

أعلن الكرملين أن بوتين شدد في رسالته على استعداد بلاده لتطوير التعاون مع السلطات السورية في كل المجالات.

وقال الناطق الرئاسي الروسي ديمتري بيسكوف، إن الرسالة حملت تأييداً لجهود القيادة السورية الموجهة نحو «تحقيق الاستقرار السريع للوضع في البلاد بما يخدم مصالح ضمان سيادتها ووحدتها وسلامة أراضيها».

اللافت أن الرسالة تضمنت تأكيداً لتوجه موسكو إلى «تطوير التعاون العملي مع القيادة السورية في كامل نطاق القضايا المدرجة على جدول الأعمال الثنائي، من أجل مواصلة تعزيز العلاقات الروسية - السورية الودية تقليدياً».

اتهام ضمني لموسكو

ومع الأهمية التي حملها هذا المضمون، وحرْص بوتين على تأكيد توجهه إلى إعادة ترتيب العلاقة وإطلاق تعاون جدي و«عملي» مع القيادة السورية، فإن أهمية توقيت الرسالة على خلفية نجاح دمشق في مواجهة تداعيات أحداث الساحل، تكتسب بعداً إضافياً، لأن أصابع اتهام كانت قد وُجِّهت إلى موسكو بشكل غير مباشر بأنها دعمت أو غضَّت الطرف عن تحرك عسكري لفلول النظام المخلوع. واستندت الاتهامات إلى أن عشرات الضباط السابقين لجأوا إلى روسيا بعد إطاحة نظام بشار الأسد. ولم تردّ السلطات الروسية على المستوى الرسمي على هذه الاتهامات، واكتفى الكرملين ووزارة الخارجية بالإعلان عن قلق جدي بسبب الاضطرابات في منطقة الساحل السوري التي أسفرت لاحقاً عن ملاحقات وتصفيات جسدية طالت مدنيين.

على هذه الخلفية تبدو رسالة بوتين متعمَّدة في لهجتها وتوقيتها، وهي تحمل إشارة واضحة إلى استعداد موسكو لتدشين مرحلة جديدة من العلاقات تقوم على التعاون بما يلبي مصالح الطرفين.

اللافت أنه مباشرةً بعد الإعلان عن هذه الرسالة، برزت معطيات تناقلتها وسائل إعلام حول قيام دمشق بتقديم «طلب رسمي» لتسليم بشار الأسد. ومرة أخرى بدا أن هذه المعطيات موجَّهة للتغطية على التقدم الحاصل في الاتصالات بين الطرفين، وفق تأكيد دبلوماسيين روس.

مصير الأسد

تقول دمشق إنها طلبت بالفعل خلال الاتصالات تسليم الأسد وزمرة من رموز نظامه، في إطار الحديث عن ضرورة دعم موسكو مبدأ العدالة الانتقالية، لكن الواضح -وفقاً للجهات الروسية- أن هذا الطلب قُدِّم خلال لقاءات على مستوى دبلوماسيين، خصوصاً خلال زيارة بوغدانوف «الاستكشافية»، وليس عبر رسالة رسمية موجهة إلى الكرملين. يوضح أحد الدبلوماسيين هذه النقطة بالإشارة إلى أنه «من السذاجة التفكير بأن دمشق تضع شرط تسليم الأسد لتطبيع العلاقات، خصوصاً أن مغادرة الأسد كانت في سياق الاتفاق على المساهمة في تغيير الوضع في سوريا دون حدوث صدام عسكري أو تفادي حدوث حرب أهلية، وأسهم في ذلك تركيا وروسيا وإيران أيضاً».

صورة للرئيس السوري السابق بشار الأسد في حلب بعد سيطرة فصائل المعارضة على المنطقة (أ.ف.ب)

ويشير الدبلوماسي إلى أن «القيادة الحالية في دمشق تعي تماماً أنها تتحمل مسؤولية ليس أمام الشعب السوري فقط، بل أيضاً أمام الأطراف الدولية التي سهَّلت لها تسلم هذه المسؤولية؛ لذلك بالنسبة إلى روسيا قضية مصير الأسد قضية محسومة وليست قابلة حتى للنقاش، والقيادة الحالية المؤقتة لسوريا تعي ذلك تماماً».

في المقابل، تقول مصادر روسية وسورية متطابقة إن موسكو قدمت تطمينات كاملة للقيادة السورية بأن الأسد لن يكون له أي دور سياسي، وأن «وجوده الإنساني» في موسكو لا يمنحه الحق في الإدلاء بتصريحات أو القيام بنشاط سياسي من العاصمة الروسية.

ووفق باحثٍ سوري مقيم في موسكو، فإن «موسكو حسمت أمرها، ولا رهان على انقلاب داخلي حالياً». ويقول الباحث الذي تحدثت معه «الشرق الأوسط» إن الروس مرتاحون لمواقف الإدارة الجديدة عموماً، لكن هناك أمور كثيرة لم تُحسَم بعد، وهي التي سوف تحدد مسار العلاقات المستقبلية.

لتوضيح هذه الفكرة، يضع الخبير المطلع على بعض النقاشات الجارية، عدة أمور إلى جانب وضع القواعد العسكرية، بينها آليات التعامل مع عشرات الضباط السابقين الذين ما زالوا يحظون برعاية موسكو، وبعضهم يوجد داخل الأراضي السورية، والثمن الذي قد تدفعه موسكو لتمديد أو تحديث عقود الوجود العسكري في حميميم وطرطوس.

ووفقاً له: «لا هدايا مجانية (...) مصير القواعد يتعلق بالتوافقات على القضايا المطروحة».

هنا يشير الخبير ومعه طيف من المحللين في موسكو، إلى نقطتين مهمتين لا تغيبان، كما يبدو، عن جوهر المناقشات الروسية - السورية الجارية؛ الأولى أن «إبعاد روسيا من المنطقة أمر خطير، ولا بد من إقامة نوع من التوازن يمنع هيمنة طرف غربي على الوضع في سوريا والمنطقة، وهذا يصب في صالح دمشق وموسكو معاً». والأخرى أن ثمة آفاقاً لأن تكون سوريا جزءاً من توافقات روسية - أميركية في المرحلة المقبلة. ويدخل هنا الحديث عن صفقات محتملة قد تكون العلاقة مع طهران، وعرض الوساطة الروسية لتقريب وجهات النظر معها، والتوصل إلى صفقة نووية جديدة مُرضية لكل الأطراف، جزءاً من مقدماتها.

OSZAR »