أنطوان الدويهي
أستاذ جامعي لبناني
TT

متاهات

استمع إلى المقالة

كنت أستمع إليه، وقد وقعتُ مصادفةً على مقابلة معه، بوجهه الصارم العابس، وشعوره الواثق من امتلاكه الحقيقة، واستهانته المضمرة بمحاوره، أيّاً كان هذا المحاور. فهو يوحي بأنّه يعرف كل شيء، ولا يحقّ لأحد مناقشته حقاً. أدركتُ مرّة أخرى كم تنطبق صفات الرجل على شخصية دُعاة البِدَع، المنتشرة خصوصاً في الغرب حيث مجتمع الحرّيات، إذ يكفي أن يوحي الداعية بأنه يملك الحقيقة، مهما كانت دعوته غريبة وخاطئة، حتى يلتئم حوله قدرٌ من الناس، من العاجزين عن تكوين رأيهم بمفردهم، فيقولون في أنفسهم: «لدى هذا الرجل ثقة عميقة بنفسه وبما يقوله، فلا بدّ أن يكون على حق»، فيسيرون وراءه.

بما أن الرجل من دعاة التغيير في لبنان، فهو يندرج في هيئة من الهيئات الكثيرة، المتقاربة، المتنافرة، المختلفة المناحي والأهواء، المنبثقة عن انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 الشعبية، التي علّقنا كبير الآمال عليها في حينه، ولا نزال نراهن على وهج روحيّتها، على الرغم من التشتّت البالغ الذي أصاب الجماعات المنتمية إليها. ولا بدّ أن يكون هذا الداعية من جماعة شعار «كلّهم يعني كلّهم»، الذين يضعون جميع من مارسوا السياسة قبلهم في كيس واحد بلا تفرقة ولا تمييز، فيكون لهم دون سواهم أحقيّة رسم «الفجر الجديد». ويضع هواة التصنيف الجاهز هذا الاتجاه في خانة اليسار في «حركة التغيير» اللبنانية.

«كلّهم يعني كلّهم»... وماذا بعد؟ يتوقّف الداعية التغييري، المستند إلى تخصّصه في العلوم الاقتصادية والإدارية من معاهد الغرب، عند ضرورة الإحصاء المفقود في لبنان وضرورة شموله جميع القطاعات بوصفه أساساً لوضع الخطط الإنمائية، ويستفيض في تعداد الصعوبات المعيشية التي تعاني منها الفئات الشعبية والقوى العمّالية، ويشرح بالتفصيل الخطوات الواجب اتباعها لمحاسبة المرتكبين، ولتحقيق النهوض الاقتصادي والمالي. وبينما يرفض الخوض في موضوع النازحين واللاجئين إلى لبنان، الذين يُقّدّر عددهم بمليوني شخص، من دون أن يذكر لماذا، ومن دون أن يجرؤ محاوره على سؤاله لماذا، يتوسّع في الكلام عن هجرة الشباب اللبناني، خصوصاً قواه الحية والمتخصّصة، الآخذة في الاتساع منذ عقود، وكيف تجب معالجتها. ويسهب في الحديث عن التعديلات المفروض إدخالها على القوانين الانتخابية والإدارية في مختلف المجالات. كل ذلك بلهجة «كوني فكانت» الحاسمة، من دون التوقّف عند وسائل العمل الفعلية لتحقيقها، التي لا مكان لها في هذا الخطاب.

لا يدري الداعية التغييري، ولن يدري أبداً، أن مقولاته، أيّاً كان قدرها من الصحّة، هي مجرّد حبر على ورق، كما يقال، لا قيمة لها تُذكَر، لأنه يعتريها شرخان كبيران:

الشرخ الأول أن الداعية يقبل مباشرةً أو مداورة أن تقوم دولتان مختلفتان فوق الأرض اللبنانية الواحدة، الأولى معلنة وهي دولة لبنان الكبير، والثانية مضمرة وهي دولة المشروع الإقليمي في لبنان. فهو لا يتناول هذا الأمر الواقع، لا من قريب ولا من بعيد. يصبّ جام غضبه على الدولة اللبنانية، التي ينعتها بالطائفية، مموّهاً بهذا الوصف عداءه للصيغة اللبنانية، ومحمّلاً هذه الدولة تبعة الانهيار الكبير برمته. وهو لا يجرؤ على الإشارة إلى الطبيعة المذهبية الخالصة لدولة المشروع الإقليمي في لبنان، بينما هي تعلن بكل اعتزاز عنها. كما يعدّ التعرّض لدولة المشروع الإقليمي، خصوصاً سلاحها وبنيتها التنظيمية، إعلاناً للحرب الأهلية، ولا يقدّم أي نظرة نقدية لها، ولمسؤولياتها عما جرى ويجري. تُرى كيف يتحقّق النهوض الاقتصادي، وكيف يمكن إجراء الإصلاحات الإدارية والمالية والانتخابية والتربوية والقضائية وغيرها، في ظلّ دولتين، مختلفتي الهوية والآيديولوجيا والتنظيم والتسلّح والاستراتيجية، فوق أرض وطنية واحدة؟ وهل من مثال على نهضة ما في العالم المعاصر أو في تاريخ الدول، في ظل هذه الثنائية؟

أمّا الشرخ الثاني، فالداعية التغييري لا يأخذ في الاعتبار الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، وكأنها لم تكن، ولا يبدو مدركاً ما ألحقته من خراب وما نتج عنها من تحوّلات. فرؤيته النظرية العالية تأبى ربما التوقّف عند هذه المتغيرات «العابرة» في أرض الواقع، ولا تجدها جديرة بالتحليل، ويتصرّف معها كأنها لا تقدِّم ولا تؤخّر.

واللافت في أمر هذا الداعية أنه لا يشكّل حالة منفردة، بل هو جزء من تيار تغييري، اقتصادي متخصّص، له حضوره في أوساط التغييريين «اليساريين»، وله مواقعه الأكاديمية والعلمية. متاهة أخرى بين المتاهات.



OSZAR »