ناقدة فرنسية تحذر من «أوهام» السينما

ناقدة فرنسية تحذر من «أوهام» السينما
TT

ناقدة فرنسية تحذر من «أوهام» السينما

ناقدة فرنسية تحذر من «أوهام» السينما

هل يمكن أن تتحوَّل السينما من أداة لإطلاق الخيال وتحفيز التفكير النقدي على نحو يُعمِّق من شخصية المتفرج وفكره، لتصبح وسيلةً فعالةً في «تزييف الوعي» وتعطيل العقل عن التفكير الحر من خلال إغراق المُشاهِد في «توافه الأمور» تحت حجة الترفيه، حتى تتحوَّل بالتدريج إلى نوع من «الإدمان البصري»؟

يُشكِّل هذا التساؤل جوهر كتاب «الواقع والخيال في السينما» للناقدة والباحثة الفرنسية باتريسيا إيف الصادر عن دار «كنعان» بدمشق، ترجمة التونسي شريف مبروكي.

تقول المؤلفة إنها ليست ضد الفن السابع في المطلق، وإنما هي فقط ضد ما تسميها بـ«السينما التقليدية» التي تستهدف برأيها جعل المتفرج ساكناً سلبياً لا يفعل شيئاً سوى «الاستسلام لتدفق الصور».

وهي تحذِّر من تحوُّل الشاشة الفضية إلى مجرد «آلة أحلام» تعمد إلى محاكاة الواقع وإعادة إنتاجه، مع بذل جهود حثيثية لجعل المتفرجين يتماهون مع شخصية البطل، ويشعرون بأن انتصاراته منسوبة إليهم، فيخرجون من دار العرض وقد انتابهم شعورٌ رائعٌ بالرضا عن أنفسهم وعن الواقع كذلك.

ومن منظور الكتاب، فإن السينما في هذه الحالة تتحوَّل إلى نوع غير مرئي من المخدرات التي تدعونا للتعامي عن عيوب الواقع وعدم مساءلته، تمهيداً لتغييره في ظل ثلاثية الحق، والخير، والجمال، وهذا ما تطلق عليه «السينما المعاكسة»، أي التي تحوَّلت في دورها وحضورها من إيقاظ الوعي إلى تغييبه.

وتلقي المؤلفةُ الضوءَ على نظرية «فن محاكاة الواقع» من خلال منهج بحثي تأملي يمزج بين علوم الفلسفة والنفس والاجتماع، حيث تخلص إلى أن الاتجاه الغالب على صناعة الأفلام عبر العالم حالياً يميل، تحت مبررات اقتصادية، إلى توحيد السرديات، عبر تقديم فن تجاري يُغرق الشاشة بصور نمطية مُكرَّرة لا تترك مساحةً تُذكر للتأمل أو إعادة التفكير.

وطبقاً لباتريسيا إيف، فإن السينما الحقيقية لا تستمد مشروعيتها من قدرتها على تسليتنا، وإنما من قدرتها على زعزعة يقيننا، وفتح ثغرات في تصوُّرنا للواقع، وهو ما لن يتحقَّق عندما تكتفي بإعادة إنتاج أنماط سردية تقليدية، وتلبية توقّعاتنا الأكثر مباشرة، لأنها ستصبح في هذه الحالة مجرد أداة ترفيه وتسلية دون قيمة أو عمق.

وتربط المؤلفة بين تخلي السينما عن دورها ونزوعها إلى تقديم منتج تجاري نمطي، وبين تراجع النزعة الفردية للمؤلف أو المخرج في عملية إنتاج الأفلام التي تحوَّلت إلى «صناعة جمعية» تخضع لأطر ومفاهيم وتصورات السوق بشكل كامل، والتي تجعل من الترفيه الهدف الأسمى، على نحو جعل معظم الأفلام تقع في فخ التشابه والتكرار والنمطية.

وترفض إيف ما يتحجَّج به البعض من أن المتفرج يريد أن ينسى همومه في قاعة العرض، ويجلس مسترخياً على مقعد وسط الظلام، مُركِّزاً بكل جوارحه مع بطل أو أبطال ينوبون عنه في اكتشاف الواقع وخوض معاناته وتحدياته، مؤكدة أن السينما خُلقت من أجل «تثوير الوعي» وتهيئة الإنسان لمكافحة القبح والزيف، والتفاعل بشكل نقدي بنّاء مع واقعه.


مقالات ذات صلة

كيف عكست الرواية النسائية صورة الرجل المعاصر؟

ثقافة وفنون كيف عكست الرواية النسائية صورة الرجل المعاصر؟

كيف عكست الرواية النسائية صورة الرجل المعاصر؟

في المجتمع يتناول كتاب «صورة الرجل في السرد النسوي المعاصر» الصادر عن دار «بيت الحكمة» للناقدة د. رشا الفوال تحليلاً فنياً وجمالياً من خلال منهج التحليل النفسي

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون مشهد من فيلم" كازانوفا"، المنتج عام 2005

كازانوفا الساحر مقيماً على التخوم الموحشة للملذات

لقد كُتبت شهرة كازانوفا بجميع اللغات، حتى أنه يفوق في عالميته معاصريه غوته وفريدريك الأكبر

شوقي بزيع
ثقافة وفنون حصان صلصالي من مقبرة الحجر، يقابله رأس حصان مشابه من قلعة البحرين

حصان صلصالي من مقبرة الحجر الأثرية في البحرين

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة متنوعة من التماثيل الصغيرة المنجزة بتقنية الطين المحروق

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون علي بن تميم: كانت للمتنبي القدرة على رؤية العالم بعينٍ لم تعهدها العرب

المتنبي... اختراعات تكشف عبقريته

أولى الأكاديمي والناقد الإماراتي ورئيس مركز أبوظبي للغة العربية، الدكتور علي بن تميم، اهتماماً كبيراً بالشاعر العباسي أبي الطيب المتنبي،

شاكر نوري
ثقافة وفنون جان جاك روسو

«مدام دو فارين» المرأة التي غيّرت مذهب روسو وطائفته

من يستطيع أن ينسى الحب الأول؟ ليس أبو تمام طبعاً؛ ما الحب إلا للحبيب الأول... وليس جان جاك روسو أيضاً؛ أي ليس ذلك الشخص الذي ظلّ يحن إلى حبيبته الأولى «مدام دو…

هاشم صالح

كيف عكست الرواية النسائية صورة الرجل المعاصر؟

كيف عكست الرواية النسائية صورة الرجل المعاصر؟
TT

كيف عكست الرواية النسائية صورة الرجل المعاصر؟

كيف عكست الرواية النسائية صورة الرجل المعاصر؟

في المجتمع يتناول كتاب «صورة الرجل في السرد النسوي المعاصر» الصادر عن دار «بيت الحكمة» للناقدة د. رشا الفوال تحليلاً فنياً وجمالياً من خلال منهج التحليل النفسي، سعياً إلى تقديم تصور نظري وتطبيقي يساعد المتلقي على استقراء الواقع وما آل إليه حال الجماعة في المجتمعات العربية من تغيرات نفسية، تم من خلالها كشف تناقضات الذات في ظل علاقتها بـ«النحن». ولتحقيق ذلك الهدف، وقع اختيار المؤلفة على أعمال ثلاث كاتبات تبدو صورة الرجل في علاقاتها بالآخرين من أهم الخصائص المميزة لكتاباتهن؛ وهن المصرية عزة رشاد في «شجرة اللبخ» والعمانية جوخة الحارثي في «سيدات القمر» والليبية نجوى بن شتوان في «زرايب العبيد».

وتتميز صورة الرجل بعدة ملامح في هذا السياق، منها إحساسه بالتهديد الدائم وعجزه عن المجابهة، كما يفتقد الطابع الاقتحامي في السلوك؛ لذلك سرعان ما يفر منسحباً إما طلباً للسلامة خوفاً من العقاب أو يأساً من إمكانية التصدي فيلجأ إلى الأحلام بشكل نكوصي. هنا تأتي الاتكالية على منقذ منتظر كالأم أو الزوجة أو الخادمة.

في مقابل ذلك، تتجلى «عقدة العار» التي تجعل الرجل في حالة دفاع دائم ضد عجزه وافتضاح أمره لأن هاجس «الفضيحة» يهيمن على تفكيره، وهو ما يمكن تسميته نفسياً بـ«الجرح النرجسي»، فالإنسان المتسلط يمكن أن يعيش من دون خبز، لكنه يفقد كيانه إذا فقد كرامته، إضافة إلى أن القمع يدفع الإنسان إلى درجة عالية من التوتر الانفعالي وغليان العدوانية المقموعة، فتنفلت وتطفو على السطح ولا تجد أمامها من سبيل إلا اتهام الآخرين بالذنب.

وتعيد المرأة في الروايات محل الدراسة إنتاج ثقافة الرجل باعتباره صاحب السيطرة في المجتمع، حتى إنه عندما أتيحت للكاتبات فرصة إنتاج كتابة مؤثرة، يبدو أنهن ينتجن ثقافة تكاد تكون ذكورية لا تسعى للدفاع عن حقوق المرأة في العمل والتعليم، بقدر ما تسعى لإنتاج ثقافة قائمة على مجرد تشويه صورة شخصية الرجل وتجسيده في عدة أنماط سلبية.

تأتمن الكاتبة العمانية جوخة الحارثي الرجل على أسرار الشخصيات ليصبح المؤلف الضمني هو الراوي العليم المشارك وأقرب شخصيات رواية «سيدات القمر» إلى المؤلف الحقيقي والمكلف بتوصيل رسالته إلى المتلقي. البطل هو الأنا الثانية للكاتبة أو هو القناع الذي يتمرد عليها، وإن كنا نرى أن الكاتبة انتقمت بشكل أو بآخر من شخصيات الرجال داخل العمل فجعلتهم جميعاً في حال معاناة وتهميش، كما أنها لجأت إلى السارد البديل، ولعل مرد ذلك وعي الكاتبة وإدراكها أن الشكل الحكائي قد يفتضح بفعل الأفكار التي ما زالت مطموسة في الخطاب الثقافي.

وتحاول جوخة الحارثي هدم صورة شخصية الرجل من خلال الانتصار عليه وقهره وإدخاله في دائرة صراع نفسي لا ينتهي، فترسم لنا صورة شخصية الأب مرتبطة بثنائية «الحضور - الغياب»، فهناك رفض لتسلطه وإنكار لذلك الرفض عند وجوده والحنين إليه عند فقده لتجرده من كل معاني الأبوة. هام الأب «عزان» على وجهه مع الغجرية الجميلة «نجية قمر»، أما التاجر «سليمان» فكان متسلطاً قاسياً، في حين استبدل الزوج عبد الله قيداً بقيد، فبعد تسلط الأب عليه جاء تسلط الزوجة ليصبح مستأنساً بينما غلب على شخصية المرأة الطابع الذكوري، كما أنه كان فاقداً للسيطرة على أولاده.

تعيد المرأة في الروايات محل الدراسة إنتاج ثقافة الرجل باعتباره صاحب السيطرة

واختزلت الكاتبة المصرية عزة رشاد الأنظمة الذكورية في شخصية «رضوان بك البليسي» في رواية «شجرة اللبخ»، وإن كانت نجحت في التخلص من ذلك الاستغلال الذكوري بأسلوب رمزي يتمثل في مقتله في صومعة فتاة الليل؛ لذلك انعكس اضطراب صورة شخصية الأب على النظرة السلبية إلى الذات لدى شخصية الابن «فارس بك» التي تمثل نموذج الرجل المقموع من قبل أبيه الذي كان أيضاً لا يكترث لمشاعر المرأة ويظهر انتهازياً يسعى وراء رغباته.

في هذا النص، يتخذ «رضوان بك» من أمواله ومنصبه وسائل لإشباع رغباته وتحقيق نزواته، كيف وهو الذي توارى خلف السياسة لتحقيق مصالحه فيبدو في ظاهره سياسياً وفي باطنه انتهازياً. إنه نموذج غريب لذلك السياسي اللاأخلاقي الذي لا يكتفي بتحقيق مصالحه، بل يتعداها للعبث في حرمات الآخرين، ولا يأبه لأنات الشباب الذين قام بتسليمهم للسلطات لخدمة ميدان المعركة البريطانية / التركية على أرض فلسطين والفلوجة مقابل عدم مصادرة أراضيه، على اعتبار أن الأفراد الذين يتم اختيارهم ككباش فداء يجب ألا يكون بمقدورهم الرد عن الأذى الذي قد يلحق بهم. في ذلك يقول ابنه فارس عنه إنه كان «مشغولاً بمزادات الأراضي والعبيد والمجوهرات وأحوال البورصة، ولم يحفظ للبيت حرمته ولم يكن مخلصاً حتى لأصدقائه».

وتتميز صورة الرجل في رواية «زرايب العبيد» للكاتبة الليبية نجوى بن شتوان بثيمة بارزة تتمثل في «فقدان الذات» الذي يعاني منه «السيد أمحمد الصغير» بعشقه للجارية «تعويضة» وفقده ابنه، كما تبدو العائلة في هذا السياق نموذجاً مثالياً لمدى تدهور علاقة الأبناء بالوالدين حيث لا يوجد أي تواصل إنساني بين الأب والأبناء، ما يعزز من سيادة الجوع العاطفي الذي يؤدي إلى انخفاض الاعتبار للذات وخيبة الأمل وانخفاض الروح المعنوية.

هدمت نجوى بن شتوان صورة شخصية الرجل المنسحب السلبي «السيد أمحمد الصغير» بأن جعلت مذلته على يد معشوقته «تعويضة» لتختم الرواية بكسر الهاجس الذكوري المهووس بقوة الرجل ودونية المرأة، فنرى تحول البطل من الفحولة والرغبة إلى المهانة والضعف.

OSZAR »