الصين وإيران وإسرائيل... لعبة التوازن في شرقٍ يتغير

حول صمت «التنين» الكبير إزاء أحدث حروب المنطقة

آثار القصف الإسرائيلي على طهران (رويترز)
آثار القصف الإسرائيلي على طهران (رويترز)
TT

الصين وإيران وإسرائيل... لعبة التوازن في شرقٍ يتغير

آثار القصف الإسرائيلي على طهران (رويترز)
آثار القصف الإسرائيلي على طهران (رويترز)

تعود العلاقات بين الصين وإيران إلى آلاف السنين حين كانت «طريق الحرير» القديمة الرابط الحيوي بين حضارتين عظميين. في عمق التاريخ هذا، لم تكن تلك الطرق مجرد مسارات تجارية لنقل البضائع، بل كانت أيضاً جسوراً للتبادل الثقافي والفكري والديني بين الشرق والغرب. وبالفعل تبادل الفرس والصينيون السلع... من الحرير والتوابل إلى الأحجار الكريمة والتقاليد الفنية. وكانت هذه العلاقات تضرب بجذورها في التقاليد والسياسات والتأثيرات الثقافية التي ظلت تلون هذه العلاقات حتى اليوم. وعبر القرون شكّل هذا التفاعل أساساً متيناً لشراكة استراتيجية معاصرة تتجاوز مجرد المصالح الاقتصادية، لتصل إلى تلاقح حضاري يعكس طموحات مشتركة لعالم متعدد الأقطاب وأكثر توازناً. ثم، بالإضافة إلى الروابط التاريخية، شهدت العلاقات الصينية الإيرانية في العصر الحديث تطوراً متسارعاً، خاصة بعد إطلاق بكين مبادرة «الحزام والطريق» عام 2013 التي تضع إيران في موقع جيوستراتيجي بالغ الأهمية بصفتها «نقطة وصل» حيوية بين آسيا الوسطى والشرق الأوسط. وفي هذا الإطار، أبدت الصين التزاماً واضحاً بالاستثمار في تحديث البنية التحتية الإيرانية، من طرق وسكك حديدية وموانٍ، لتسهيل تدفق البضائع والطاقة بما يعزّز فرص التنمية الاقتصادية المشتركة ويقوي الترابط الإقليمي، رغم أن وتيرة التنفيذ الفعلي لا تزال محدودة بفعل العقوبات والظروف الجيوسياسية.

اليوم في مشهد إقليمي متقلّب، ووسط صواريخ متبادلة وتصريحات حادة وتدخلات مباشرة، ظهر الموقف الصيني كما اعتاد العالم رؤيته خلال السنوات الأخيرة: هادئاً ومتريثاً، وإن كان كما يرى مراقبون راصدون «محمّلاً برسائل مدروسة تتجاوز اللحظة».

وحقاً، يلاحَظ أنه حين اندلعت المواجهة العسكرية الأخيرة بين إيران وإسرائيل في منتصف يونيو (حزيران) 2025، وقفت بكين في موقع ليس محايداً تماماً ولا منحازاً لأحد، بل في موقع مَن يعرف كيف يدير التوازنات ولا يحترق بشظاياها.

ومن جهة ثانية، عُرفت القيادة الصينية، ولا سيما خلال العقود الأخيرة، بقدرتها على إدارة علاقاتها الدولية ضمن سياسة «الحياد النشط» التي تمكّنها من المحافظة على مصالحها الحيوية من دون الدخول في صراعات مباشرة.

هذا الأسلوب أتاح ويتيح لبكين أن تكون لاعباً محورياً في الملفات الأكثر تعقيداً، لكونها تدير شبكة من العلاقات المتوازنة مع عدة أطراف متنازعة. وفي الشرق الأوسط، تحديداً، فإن استراتيجيتها ترتكز على تجنب الاصطفاف مع أي جهة بشكل كامل، ومن ثم الحرص على التمسك بالحوار والتفاوض والسعي لتخفيف التوترات التي قد تهدد «أمنها الاقتصادي»... خاصة في مجال الطاقة.

وقف إطلاق النار

يوم 24 يونيو 2025، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب ما وصفه بـ«وقف إطلاق نار شامل وكامل» بين إسرائيل وإيران، وأعرب عن أمله بأن يتحول إلى اتفاق دائم. وكانت قد سبقت الإعلان أيام من القصف المتبادل والتهديدات النووية التي حبست أنفاس المنطقة والعالم، وبلغت ذروتها مع دخول الولايات المتحدة بشكل مباشر على خط التصعيد، عبر تنفيذ ضربات على منشآت نووية إيرانية في سابقة عدّتها طهران انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي.

لقد بدا الإعلان مفاجئاً، لكنه لم يكن معزولاً عن الضغوط الدولية المتزايدة، خاصةً مع اقتراب الأمور من حافة انفجار يصعب احتواؤه. والحقيقة، أن هذا الإعلان من جانب واشنطن كان يحمل دلالات مهمة على أكثر من مستوى. فهو يعكس رغبة في احتواء المواجهة، لكنه أيضاً يشير إلى رغبة في إعادة ترتيب الأوراق الإقليمية والدولية بما يتلاءم مع مصالح القوى الكبرى من دون السماح لأي تصعيد بأن يخرج عن السيطرة.

الصين، بطبيعة الحال، تابعت هذا التطوّر بعناية، لكونها تدرك أن استمرار النزاع ستكون له تبعات سلبية على أمن الطاقة واستقرار الأسواق العالمية، وبالأخص، في ظل الاعتماد الكبير على النفط الإيراني والصادرات الصينية.

بكين حاضرة

في تلك اللحظة لم يكن صوت الصين عالياً لكنها كانت حاضرة في خلفية كل مشهد. من نيويورك إلى بكين إلى طهران... كانت تتحرّك بخفة غير مرئية، لكنها فعالة. وفي جلسة مجلس الأمن الدولي خرج المندوب الصيني فو تسونغ بموقف غير تقليدي؛ إذ حمّل واشنطن المسؤولية الكاملة عن أزمة الملف النووي الإيراني، مذكّراً بانسحابها الأحادي من الاتفاق النووي عام 2018، وفرضها سياسة «الضغط الأقصى» التي أدت – وفق رأي بكين – إلى انهيار التفاهمات وتسبّبت لاحقاً في التصعيد الحالي.

في هذه الخطوة أكدت الصين موقفها الداعم للدبلوماسية ولحلول الحوار، منتقدة السياسات التي تقود إلى التصعيد والتوتر، وموضحة أن «الحروب والتهديدات ليست الطريق الصحيح، وبالأخص، في ملف حساس كالقضية النووية».

مصلحة صينية في الاستقرار الإقليمي

هذا الموقف المعبر عنه في مجلس الأمن يعكس إدراك الصين أن تعزيز الاستقرار في المنطقة يصب في مصلحتها، وأن تحييد الشرق الأوسط عن المواجهات المسلحة وفتح المجال أمام حل سياسي شامل... هو السبيل الوحيد لتثبيت دورها بوصفها لاعباً دولياً فاعلاً.

ثم إن المندوب الصيني عدّ أيضاً الضربات الأميركية والإسرائيلية على منشآت نووية إيرانية «انتهاكاً خطيراً» للقانون الدولي، و«سابقة تهدد نظام منع الانتشار العالمي». ولاحظ المندوب أن طهران «ما زالت ملتزمة بالتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية رغم كل الضغوط»، وأن «المسار الدبلوماسي لم يُغلق من طرفه، بل أُضعف بفعل سياسات الإملاء والازدواجية».

في سياق موازٍ، هذا الموقف يتقاطع مع مصالح الصين في الحفاظ على استقرار مبادرة «الحزام والطريق» التي تمر عبر منطقة الشرق الأوسط، ولا تستطيع تحمّل أي اضطرابات كبيرة قد تعيق تنفيذ المشاريع التنموية الكبرى التي تربط الصين بالعالم. وعلاوة على ذلك، تمثل إيران في هذا السياق «نقطة مركزية»، إذ إن استمرار العلاقة المتينة بينها وبين الصين، يوفر للصين مصدراً أساسياً للطاقة، وأيضاً فرصاً اقتصادية استثمارية مهمة.

بالتوازي، كان الرئيس الصيني شي جينبينغ يتكلم مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين. والموقف الصيني جاء على لسانه واضحاً، ألا وهو، أن استمرار التصعيد سيقود إلى نتائج كارثية لا على طرفي النزاع فحسب، بل على المنطقة والعالم أيضاً. وحقاً، دعا شي إلى «الوقف الفوري لاستخدام القوة، وبخاصة من جانب إسرائيل»، وشدّد على أن «حماية المدنيين واحترام القانون الدولي لا يمكن أن يكونا موضع تفاوض أو استثناء». لكنه أضاف: «ما هو أهم أن العالم يدخل طوراً جديداً من الاضطراب والتحول»، وأن الشرق الأوسط «بات نموذجاً مصغّراً لهذا الانتقال من نظام أحادي القطبية إلى عالم يتشكّل على أنقاضه».

لقاء صيني - إيراني... ضمن استراتيجيتي التلاقي بين القوتين الآسيويتين (وزارة الخارجية الصينية)

عالم متعدد الأقطاب

هذا التحول في النظام الدولي بات أكثر وضوحاً مع تنامي طموحات الصين لإرساء عالم متعدد الأقطاب. إذ لا ترغب بكين في أن تحل محل واشنطن بوصفها «قوة مهيمنة»، بل تسعى إلى «تقاسم السلطة العالمية» في إطار نظام يحترم التنوع والاختلاف بين الدول، ويمنع فرض إرادة طرف واحد على الجميع. وهذا الطموح يعزّز من أهمية الصين بوصفها لاعباً رئيساً في الشرق الأوسط، حيث تعمل على تعميق علاقاتها وتوسيع نفوذها من خلال مبادرات اقتصادية وتنموية مستدامة، تعكس رؤيتها للاستقرار الشامل بدلاً من التوتر العسكري.

والحال، أنه منذ سنوات، تسعى الصين بهدوء وبعيداً عن الشعارات إلى «إعادة تشكيل النظام الدولي ليكون أكثر توازناً وعدالة وقائماً على التعددية القطبية بدل الهيمنة الأحادية». وكما سبقت الإشارة، فإنها لا تسعى إلى أن تحل محل واشنطن بوصفها قوة مهيمنة، بل لأن تكون لاعباً محورياً في نظام دولي جديد تتوزّع فيه مراكز القرار وتُحترم فيه السيادة وتُبنى فيه الشراكات لا الاستتباع. وهذا الطموح لا يُترجم فقط في بيانات السياسة الخارجية، بل في السلوك العملي للصين من الشرق الأوسط إلى أفريقيا إلى آسيا الوسطى.

«الشراكة الاستراتيجية» الصينية الإيرانية

في هذا السياق، تأتي «الشراكة الاستراتيجية» بين الصين وإيران، التي تُرجمت باتفاق طويل الأمد وُقّع عام 2021 لمدة 25 سنة، بقيمة تتجاوز 400 مليار دولار، وهي تشمل مجالات الطاقة والبنية التحتية والنقل وحتى التعاون الأمني والعسكري.

هذا الاتفاق لم يكن مجرد عقد استثمار، بل رسالة إلى العالم مضمونها أن بكين ترى في طهران شريكاً استراتيجياً في مشروعها الأوسع، أي مبادرة «الحزام والطريق» التي تسعى إلى ربط الصين بالعالم من خلال البنى التحتية والشراكات الاقتصادية، بدل الجيوش والتحالفات العسكرية.

... وجسور مع إسرائيل

ولكن في المقابل، لم تقطع بكين جسورها مع إسرائيل، بل تواصل الشركات الصينية الاستثمار في موانيها وتحتفظ بعلاقات تقنية وتجارية متقدمة معها. وهكذا تبقى السياسة الصينية متوازنة وخياراتها مفتوحة... أساسها الاستثمار من دون انحياز والربط من دون قيود. فبين هذين الطرفين، تمارس بكين «دبلوماسية حذرة» لكنها أيضاً «دبلوماسية مدروسة».

إنها ليست حيادية بالكامل، وليست صدامية. لا تطلق تهديدات، لكنها ترفض أن تُستفز. تتكلّم عن احترام السيادة لكنها لا تُهمل المصالح. وعبر كل ذلك تواصل بكين بناء صورة القوة المسؤولة التي لا تبحث عن أدوار بطولية في الإعلام، بل عن نتائج واقعية على الأرض.

وهنا، يشدد مراقبون على أن الصين أظهرت فعلاً في هذه الأزمة، كما في غيرها، أن صمتها ليس غياباً بل هو أسلوب عمل. وأن حضورها الهادئ أكثر تأثيراً من عواصف التصريحات، ولا سيما أنها لا تسعى إلى خلق أعداء بل إلى بناء توازنات. ولا تمانع أن يُحسب موقفها على قاعدة المصالح لا التحالفات... وذلك «لأن مشروعها الأكبر هو أن يصبح العالم متعدد الأقطاب حيث لا تفرض دولة واحدة معاييرها على الجميع بل تُبنى السياسات على التفاهم والشراكة».

ختاماً، تدرك القيادة الصينية جيداً أن الشرق الأوسط، بكل ما فيه من نفط وتوترات ونفوذ أميركي تقليدي، ليس «ساحة مؤقتة»، بل هو «ممرٌ إجباري» نحو النظام العالمي المقبل. ومن ثمّ، كلما اشتدت الأزمات فيه حرصت بكين على زيادة حضورها وصبرها. بل كلما سقطت أقنعة القوة التقليدية، بدا أن الصعود الهادئ لـ«التنين» الكبير لم يعد مجرد احتمال بل غدا واقعاً يتشكّل بصمت.

لا تسعى بكين لأن تحل محل واشنطن بل لأن تكون لاعباً محورياً في نظام دولي جديد تتوزّع فيه مراكز القرار

واشنطن غير مرتاحة للتقارب الاقتصادي الصيني ــ الإسرائيلي

تعود العلاقات الدبلوماسية بين الصين وإسرائيل إلى عام 1992، لكن سبقتها اتصالات غير رسمية منذ أواخر السبعينات عندما بدأت بكين، بعد انفتاحها الاقتصادي، عملية توسيع علاقاتها خارج إطار «الحرب الباردة» التقليدي. ومنذ مطلع الألفية شهدت العلاقات تطوراً سريعاً خاصة في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية. لقد استثمرت شركات صينية في مشاريع بنى تحتية ضخمة داخل إسرائيل، من بينها تطوير وتشغيل أجزاء من ميناءي حيفا وأشدود، فضلاً عن تنفيذ مشاريع في النقل والاتصالات. وفي المقابل شكّلت التكنولوجيا الإسرائيلية، وخصوصاً في مجالات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني والزراعة الذكية، عامل جذب مهماً للصين التي تسعى إلى اكتساب تقنيات متقدمة عبر شراكات واستثمارات مشتركة. مع هذا، لم يخلُ هذا التقارب من ضغوط أميركية متصاعدة، خاصة في عهد إدارة الرئيس دونالد ترمب؛ إذ عبّرت واشنطن عن قلقها من مشاركة الصين في مشاريع استراتيجية داخل إسرائيل. واستجابةً لذلك، بدأت تل أبيب تعيد النظر في بعض عقودها مع الشركات الصينية، وشكلت لجنة رقابة على الاستثمارات الأجنبية، ما أدى إلى إبطاء مسار التعاون الصيني - الإسرائيلي في بعض المجالات الحساسة. في المقابل، رغم هذا التعاون، لم تُغيّر الصين موقفها الثابت المؤيد للقضية الفلسطينية. للعلم، منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية اعترفت بكين بدولة فلسطين ودعمت منظمة التحرير الفلسطينية، وأكدت مراراً دعمها «حل الدولتين» وفق حدود 1967، ورفضت الإجراءات الإسرائيلية الأحادية مثل بناء المستوطنات أو تهويد القدس. وخلال السنوات الأخيرة، أمام تصاعد العدوان الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية، دعت بكين تكراراً إلى وقف فوري لإطلاق النار، وأكدت أهمية حماية المدنيين واحترام القانون الدولي، وشددت على ضرورة استعادة الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولة مستقلة ذات سيادة ضمن حدود عام 1967. في المحصلة تحاول الصين أن تجمع بين «شراكة عملية» مع إسرائيل من جهة و«موقف مبدئي» مؤيد للفلسطينيين من جهة أخرى. وهذه معادلة صعبة، لكنها تنسجم مع فلسفة بكين في إدارة التوازنات الدقيقة بعيداً عن الاصطفاف الآيديولوجي والاستفزاز السياسي العلني.

 

* رئيس معهد طريق الحرير للدراسات والأبحاث، ورئيس الرابطة العربية الصينية للحوار والتواصل


مقالات ذات صلة

دافيد برنياع... رئيس «الموساد» الإسرائيلي الذي هيأ لجيشه ظروف الضربات الفتاكة

حصاد الأسبوع سلك طريقاً معاكساً لطريق غالبية زملائه من العسكريين المسرّحين من الجيش... الذين استخدموا خبراتهم للتقدم في عالم المال والأعمال

دافيد برنياع... رئيس «الموساد» الإسرائيلي الذي هيأ لجيشه ظروف الضربات الفتاكة

لم يكن مصادفة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي تخلص من كل القيادات العسكرية والأمنية، بالذات رئيس أركان الجيش هيرتسي هليفي، ورئيس المخابرات

نظير مجلي (تل أبيب)
حصاد الأسبوع شارون (رويترز)

نجاحات «الموساد» داخل إيران مهّدت لإسرائيل السيطرة على سمائها

بدأ اهتمام الموساد بالعمل في إيران، عام 2003، عندما قرر رئيس الوزراء (يومذاك) أرئيل شارون، وضع الخطط اللازمة لتدمير المشروع النووي الإيراني.

«الشرق الأوسط» ( القدس)
حصاد الأسبوع تظاهرة مؤيدة لفلسطين في باريس (رويترز)

الاعتراف الفرنسي بفلسطين... بين الوعود والتراجع

في خضم التطورات المتسارعة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وبينما تتصاعد الأصوات المطالبة بالاعتراف الدولي بدولة فلسطين، تقف فرنسا عند مفترق طرق دبلوماسي حساس.

حصاد الأسبوع قصف صاروخي إيراني على تل أبيب (رويترز)

الكرملين... منتصف الطريق بين طهران وتل أبيب

لم تنعكس اللهجة القوية التي أطلقها الكرملين ضد إسرائيل مباشرة بعد اندلاع الحرب الحالية، عملياً على التحركات الروسية. ولم يحمل التنديد الروسي بالهجوم الإسرائيلي

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع مايك هاكابي

مايك هاكابي... سفير أميركا لدى إسرائيل «توراتي» ينكر وجود الشعب الفلسطيني

كان من الممكن لسفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل، مايك هاكابي، أن يكون دبلوماسياً عادياً، بالكاد تحدث تصريحاته السياسية أثراً مهماً أو تلعب دوراً في كشف سياسات

إيلي يوسف (واشنطن)

دافيد برنياع... رئيس «الموساد» الإسرائيلي الذي هيأ لجيشه ظروف الضربات الفتاكة

سلك طريقاً معاكساً لطريق غالبية زملائه من العسكريين المسرّحين من الجيش... الذين استخدموا خبراتهم للتقدم في عالم المال والأعمال
سلك طريقاً معاكساً لطريق غالبية زملائه من العسكريين المسرّحين من الجيش... الذين استخدموا خبراتهم للتقدم في عالم المال والأعمال
TT

دافيد برنياع... رئيس «الموساد» الإسرائيلي الذي هيأ لجيشه ظروف الضربات الفتاكة

سلك طريقاً معاكساً لطريق غالبية زملائه من العسكريين المسرّحين من الجيش... الذين استخدموا خبراتهم للتقدم في عالم المال والأعمال
سلك طريقاً معاكساً لطريق غالبية زملائه من العسكريين المسرّحين من الجيش... الذين استخدموا خبراتهم للتقدم في عالم المال والأعمال

لم يكن مصادفة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي تخلص من كل القيادات العسكرية والأمنية، بالذات رئيس أركان الجيش هيرتسي هليفي، ورئيس المخابرات العامة «الشاباك» رونين بار، وقادة اللواء الجنوبي والمخابرات العسكرية، أبقى على دافيد «ديدي» برنياع رئيساً لجهاز «الموساد». المفترض، من وجهة نظره، أنه هو أيضاً كان من قادة الأجهزة الأمنية المسؤولة عن إخفاقات السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. وليس هذا فحسب، بل عندما عُيّن برنياع رئيساً لفريق التفاوض الإسرائيلي مع «حماس» حول صفقة تبادل، دخل في صراع طويل ومرير مع نتنياهو. إذ كان يتوصل إلى تفاهمات حول نقطة معينة، لكن نتنياهو كان يجهضها. وبرنياع كان يخبر عدداً من الشخصيات بهذه الحقيقة فيسربون الأمر للصحف، فتهاجم نتنياهو، وتتهمه بعرقلة الجهود لإنهاء الحرب؛ فقط لكي يضمن بقاء حكومته. ونقل على لسانه أنه قال إنه كان بالإمكان التوصل إلى صفقة مع «حماس» في شهر مايو (أيار) 2024، وحقن دماء كل من قتلوا منذ ذلك الحين، لكن نتنياهو أجهضها. عملياً، كان نتنياهو يتمنى لو يستطيع التخلص من برنياع، بيد أن الخطة الحربية مع إيران استوجبت التنازل عن هذه الأُمنية. وكان الأمر يحظى بتهكّم برنياع، المعروف بنكاته اللاذعة.

الانشغال الإسرائيلي الكبير في المفاوضات مع «حماس»، تارة في الدوحة على بعد قصير من طهران، وطوراً في القاهرة، لم يمنع دافيد برنياع من ممارسة دوره في قيادة «مشروع الإعداد للحرب»، الذي تم على الأرض الإيرانية خلال الشهور الماضية. فجهاز «الموساد»، المخابرات الخارجية، تحت قيادة برنياع أدى دوراً حاسماً في العمل داخل إيران، لاستقبال العمليات الحربية العدوانية. بل اعتبر الموساد الركن الأساسي في هذه الحرب، ولولا عملياته لما تمكنت الطائرات الإسرائيلية من تنفيذ هجماتها واغتيالاتها.

بطاقة هوية

ولد دافيد «ديدي» برنياع قبل 60 سنة في مدينة عسقلان (أشكيلون) وانتقل لاحقاً مع عائلته للسكن في مدينة ريشون لتسيون جنوب شرقي تل أبيب - يافا. وهو متزوج وأب لأربعة أولاد. وراهناً يسكن في بلدة صغيرة في منطقة السهل، شمال شرقي تل أبيب. وهو يتكلم خمس لغات تشمل إلى جانب العبرية، والعربية والإنجليزية اللغتين البنغالية والأوردية الهنديتين، ومن أبرز هواياته الركض لمسافات طويلة.

في الواقع، سلك برنياع طريقاً معاكساً لطريق غالبية زملائه من القادة العسكريين، الذين تسرّحوا من الجيش واستخدموا خبراتهم للتقدم في عالم رجال الأعمال. فهو خدم في الجيش مع وحدة الكوماندوز المختارة «سييرت متكال». ومدّد خدمته العسكرية سنة إضافية، لكي يكمل «عملية عسكرية وراء خطوط العدو». بيد أنه، بعد إكمال العملية، اختار السفر إلى الولايات المتحدة، وتحديداً مدينة نيويورك؛ للدراسة في مجالي إدارة الأعمال والاقتصاد.

الدراسة... ثم العودة إلى الجيش والمخابرات

وبالفعل، حصل برنياع هناك على درجة بكالوريوس علوم من معهد نيويورك للتكنولوجيا، ثم على الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة بايس. ومن ثم، عاد إلى إسرائيل ليعمل في مجال تجارة العقارات والاستثمار العقاري وغيرهما من الأعمال. ويقول الكاتب المختص في الشؤون الأمنية والاستراتيجية، يوسي ميلمان، إن برنياع برع بشكل خاص في إدارة المفاوضات. وأصبح رجل أعمال من ذوي الاعتبار في تل أبيب.

غير أن الرجل عاد ليهتم بالقضايا الأمنية عندما غرقت إسرائيل في العمليات المسلحة القتالة. ففي عام 1994 أقدم طبيب مستوطن على تنفيذ مذبحة في مدينة الخليل، إذ أطلق الرصاص على المصلين في الحرم الإبراهيمي عند صلاة التراويح في رمضان؛ ما تسبب في مقتل 29 فلسطينياً (والجيش الإسرائيلي قتل 20 آخرين من الفلسطينيين الذين احتجوا على الجريمة)، وراحت التنظيمات تغرق المدن الإسرائيلية بالعمليات المسلحة.

ثم صُدم برنياع من اغتيال رئيس الحكومة الإسرائيلي إسحق رابين على يد متطرف يهودي مناوئ للسلام مع الفلسطينيين. ويومذاك قرر العودة إلى العمل العسكري واختار الانضمام إلى «الموساد». وحسب قوله، إن انتماءه لعائلة وطنية (والده كان من المقاتلين في التنظيمات اليهودية التي احتلت بلدتي صفد وسمخ في شمال فلسطين)، دفعه إلى التخلي عن الثروة المضمونة والعودة إلى خدمة العلم.

تجنيد العملاء

في الموساد قوبل دافيد برنياع بالترحاب؛ لأن قادة الجهاز كانوا قد بدأوا في تشكيل هيئة لمحاربة تمويل الإرهاب في العالم. ووجدوا في دراسته وأعماله مصدر إلهام لهذا الموضوع. لكن رئيس الموساد في حينه، مئير دجان، أخذه إلى مجال آخر في الوحدة المعروفة باسم «تسومت» المتخصّصة في تجنيد العملاء وجمع المعلومات والمهمات الخاصة.

وعام 1990، أُرسل برنياع إلى «إحدى الدول» للقيام بعملية سريّة مع قائده يوسي كوهن، الرئيس السابق للموساد. ومنذ تلك المهمة، والرجلان لا يفترقان. فقد تبناه كوهن طول الطريق، إلى أن أقنع نتنياهو بتعيينه مكانه في رئاسة الموساد، وتسلم منصبه في مطلع يناير (كانون الثاني) من عام 2021.

تدرّج برنياع في المسؤوليات، ونجح بإثارة إعجاب قادته ورؤسائه ومرؤوسيه، الذين يجمعون على أنه «حاد الذكاء ومتواضع وجريء وصاحب نكتة، ينظر حتى إلى خصومه باحترام... وذهنه يتفتّق عن عمليات مستحدثة باستمرار»، كما يقول أحد رؤسائه، تمير بوردو. ولذا؛ حظي بعدد كبير من الأوسمة، لا سيما عندما تولى رئاسة دائرة العمليات التنفيذية خلال الفترة ما بين 2013 و2019، وهي الفترة التي أصبحت فيها إيران ومشروعها النووي عنواناً أساسياًٍ لعمل الموساد. وفي ختامها عُيّن نائباً لرئيس الموساد، تحت قيادة كوهن.

نشاطات داخل إيران

استمرت 02 سنةالنشاطات السرّيّة التي أجراها الموساد على الأرض الإيرانية، وفقاً للمصادر في تل أبيب، دامت نحو 20 سنة، وبرنياع كان له دور شخصي وأساسي فيها منذ أن انضم للموساد عام 1996. إلا أنها تكثفت وتزايدت واتسعت في السنة الأخيرة. وبلغت أوجها، عندما اتُخذ القرار بشن الحرب وحصلت إسرائيل على «الضوء الأخضر» من واشنطن.

الصحافي كوبي بورنشتاين، كتب في العدد الأخير من صحيفة المتدينين «همشبحاة» (العائلة)، إن «رجال الموساد الموجودين في طهران، عملوا طيلة شهور قبل الحرب على تهريب عدد كبير من الطائرات المسيّرة المزوّدة بالمتفجرات، بالقطع، داخل حقائب وشاحنات وحاويات عبر خطوط نقل تجارية مدنية. وتولّى وكلاء (عملاء) الموساد إعادة تركيب القطع من جديد في مواقع داخل إيران. وهؤلاء الوكلاء كانوا قد تلقوا دورات تعليمية وتدريبية عدة على أرض دولة ثالثة وعادوا إلى إيران، وفيها نظموا دورات تدريب لوكلاء آخرين محليين.

ومع اندلاع الحرب، استُخدمت هذه الطائرات المسيّرة، وكذلك أسلحة إلكترونية أخرى جرى تفعيلها من السيارات التي سبق أن جُهّزت في الخارج قبل تهريبها، وراحت تشوّش على الرادارات والمضادات الجوية؛ ما أدى إلى شللها. وبهذه الطريقة تمكّنت طائرات سلاح الجو الإسرائيلي من «التحرك بحرية في سماء إيران وتنفيذ غاراتها، تقريباً بلا اعتراض».

بورنشتاين كشف عن لقاء مع أحد الطيارين الإسرائيليين، قال فيه إن كل طاقم من بين قادة 200 طائرة تسلمت مهمات محددة، لإصابة 100 هدف، وكان الموساد المصدر لغالبيتها. وبضمن ذلك عناوين بيوت المسؤولين العسكريين وقادة «الحرس الثوري» وعلماء الذرة لاغتيالهم، وعناوين مصانع الصواريخ وبطاريات إطلاق. ولكن المهمة الأكثر بروزاً كانت «تنفيذ عملية جعلت جميع قادة سلاح الجو الإيرانية تتجه للاجتماع في مكان ما، وهناك جرى قصفه؛ ما أدى إلى قتل 13 شخصاً من الحاضرين».ختاماً، برنياع نفسه صرح يوم الأربعاء الماضي بأن «قوات الموساد ما زالت هناك تواصل مهامها، حتى اليوم، وستبقى هناك لمراقبة النشاط العسكري الإيراني». ورئيس أركان الجيش، ايال زامير، كشف عن أن هناك قوات كوماندوز للجيش الإسرائيلي عملت إلى جانب الموساد على أرض إيران.

OSZAR »