أمستردام... تجربة ثقافية متكاملة تمزج بين التاريخ والفن والطبيعة

عدد دراجاتها الهوائية يزيد على عدد سكانها

رحلات خاصة في قنوات أمستردام (الشرق الأوسط)
رحلات خاصة في قنوات أمستردام (الشرق الأوسط)
TT

أمستردام... تجربة ثقافية متكاملة تمزج بين التاريخ والفن والطبيعة

رحلات خاصة في قنوات أمستردام (الشرق الأوسط)
رحلات خاصة في قنوات أمستردام (الشرق الأوسط)

أمستردام ليست مجرد وجهة سياحية، بل تجربة ثقافية متكاملة تمزج بين التاريخ والفن والطبيعة. هي مدينة نابضة بالحياة، ترحب بزوارها بابتسامة القنوات ودفء المقاهي وسحر المتاحف. من يزورها مرة، غالباً ما يشتاق للعودة مراراً، لما تحمله من جمال وتناقضات، إنها فعلاً مدينة متناقضة، فهي معروفة بانفتاحها المبالغ فيه، وباعتمادها سياسة قانونية مدروسة تعتمد على الحد من الأضرار وتنظيم الظواهر الاجتماعية بدلاً من محاربتها بعنف. ولكن هذا لا يعني أن كل شيء مباح، بل إن هناك قوانين صارمة، لكنها مرنة في التعامل مع بعض القضايا. هذه السياسة قد تكون مثار جدل، لكنها تعكس الفلسفة الليبرالية التي بني عليها جزء كبير من المجتمع الهولندي.

تُعدّ أمستردام، عاصمة مملكة هولندا، واحدة من أجمل المدن الأوروبية وأكثرها جذباً للسياح من مختلف أنحاء العالم. تمتاز بجمال فريد يجمع بين القنوات المائية المتشابكة، والمعمار التاريخي الرائع، والثقافة الغنية التي تنبض بالحياة في كل زاوية من زواياها.

تأسست أمستردام في أواخر القرن الثاني عشر كقرية صغيرة لصيد السمك على ضفاف نهر «الأمستل». بدأت المدينة بالنمو تدريجياً حتى أصبحت في القرن السابع عشر واحدة من أغنى وأقوى مدن العالم، فيما يُعرف بالعصر الذهبي الهولندي، حيث ازدهرت فيها التجارة والفنون والعلوم.

وكانت أمستردام آنذاك مركزاً عالمياً للمال والتجارة، بفضل موقعها الجغرافي واتساع أسطولها البحري. كما أصبحت مركزاً ثقافياً احتضن كبار الفنانين أمثال رامبرانت وفيرمير.

يفوق عدد الدراجات الهوائية عدد سكان المدينة (الشرق الأوسط)

بداية الزيارة

لنبدأ زيارتنا من مطارها «شكيبهول» Schiphol، إنه من الضروري التذكير هنا بأنه مطار كبير جداً، فإذا كنت تعاني من إعاقة أو مشكلة في المشي فمن الضروري أن تنسق مع العاملين في المطار أو مع شركة الطيران لتأمين كرسي متحرك.

أردنا الرحلة بأن تكون مليئة بالقصص التاريخية التي أصبحت من رموز أمستردام الشهيرة فاخترنا الإقامة في فندق «أنانتارا غراند كراسنابولسكي» وسط المدينة وتحديداً في ساحة «دام» (Dam Square) الشهيرة مقابل القصر الملكي والنصب التذكاري، هذا العنوان مميز جداً لأنه يشكل نبض المدينة وكل ما يدور من حولها ويبعد 30 دقيقة بالسيارة من المطار و5 دقائق من محطة أمستردام المركزية للقطارات و350 متراً فقط من محطة مترو الأنفاق.

قصة أدولف فيلهلم كراسنابولسكي لافتة جداً، وصل الشاب البولندي الطموح إلى أمستردام في عام 1856 وهو في الـ22 من العمر، حاملاً شهادة في الخياطة وبدأ حياته المهنية خياطاً في متجر للأزياء، ليصبح بعدها زبوناً في مقهى «نويي بولسكي كوفيهاوس» في شارع وارموسفي عام 1866، قرر شراء هذا المقهى وتحويله إلى مطعم، ليصبح واحداً من أشهر الأماكن في المدينة.

في عام 1874، قرر كراسنابولسكي توسيع عمله، فاشترى عدة مبانٍ مجاورة وأعاد تصميمها لتصبح مطعماً فاخراً مزوداً بحديقة شتوية مزخرفة، تُعرف الآن باسم «الحديقة الشتوية» (Winter Garden). تميزت هذه الحديقة باستخدامها الزجاج والحديد والإضاءة الكهربائية، مما كان يُعتبر ابتكاراً تقنياً في ذلك الوقت. في عام 1883، قرر كراسنابولسكي تحويل عمله إلى فندق، فافتتح فندقاً يضم 125 غرفة، وكان مجهزاً بأحدث وسائل الراحة مثل المياه الساخنة والهواتف في كل غرفة، وهي ميزات نادرة في أمستردام آنذاك.

استمر الفندق في النمو والتطور على مر العقود، ليصبح واحداً من أبرز معالم الضيافة في المدينة.

وإلى اليوم، يحمل بار «ذا تايلور» تحية لمؤسس الفندق بتكريمه مهنة الخياطة التي بدأ بها من خلال ديكورات تجسد الأدوات التي تستعمل في هذه المهنة، الأرضية مخططة على شكل الإبرة والغرز ولوحات على الجدران تحمل رسومات لها علاقة بالخياطة والقماش.

طموح كراسنابولسكي لم ينته هنا، ففي عام 1880، استحوذ على شركة الكهرباء الأولى في أمستردام، مما مكنه من إضاءة ساحة دام أمام قصر الملك باستخدام 5 آلاف مصباح كهربائي بمناسبة مرور 40 عاماً على حكم الملك ويليام الثالث. هذا الحدث يُعتبر من أوائل استخدامات الإضاءة الكهربائية في الأماكن العامة في هولندا.

وبما أننا بدأنا بقصة تاريخية جميلة فلا بد من ذكر قصة تاريخية أخرى تروي حكاية زهرة التوليب التي تجمع ما بين الجمال والاقتصاد، بل وتُعد من أوائل فقاعات المضاربة المالية في التاريخ.

ففي القرن السابع عشر، وصلت زهرة التوليب إلى هولندا من الدولة العثمانية، وسرعان ما أصبحت رمزاً للثروة والترف بسبب ندرتها وجمالها. وبحلول العقد الثالث من القرن 1600، تحوّلت إلى سلعة فاخرة تُباع بأسعار خيالية. بعض الأبصال كانت تُباع بما يعادل سعر بيت فاخر على قناة في أمستردام.

في عام 1637، انهار السوق فجأة، وفقدت الأبصال قيمتها بشكل كبير، مما تسبب في إفلاس كثيرين. رغم هذه النهاية الاقتصادية الحزينة، بقيت التوليب رمزاً لهولندا، وتحوّلت من فقاعة مالية إلى رمز وطني.

المشي أفضل طريقة لاكتشاف المدينة (الشرق الأوسط)

واليوم تُزرع ملايين زهور التوليب كل عام، وتُعرض في حدائق كوكينهوف بالقرب من أمستردام. وتُنظَّم مهرجانات سنوية، وتُصدِّرهولندا الزهرة إلى مختلف أنحاء العالم.

ومن أهم الزيارات التي يمكن أن تقوم بها في أمستردام هي زيارة الحدائق المذكورة والقيام بما يعرف باسم Tulip experience، ففي تلك الحدائق يمكنك التعرف على تاريخ تلك الزهرة بالتفصيل عن طريق جهاز إلكتروني يأخذك برحلة عبر الزمن لتصل بعدها إلى الهواء الطلق حيث تتباهى في أجوائه زهور لا تحصى ولا تعد بألوان لا يمكن وصفها إلا بالرائعة بما فيها التوليب السوداء.

موسم التوليب يمتد ما بين منتصف أبريل (نيسان) ومنتصف مايو (أيار)، ففي نهاية الموسم يتم قطف كل الزهور وتستخرج البصيلات من التربة لكي تغسل وتتحضر من جديد لموسم آخر من الزراعة وجذب السياح والزوار من شتى أصقاع الأرض. في تلك الحدائق ترى الكاميرات مسلطة على الزهور وعلى الزائرين والمؤثرين الباحثين عن فرصة لالتقاط صورة تليق بمنصات التواصل الاجتماعي التي لا تخلو من صور حقول التوليب في أمستردام. وبعد جولة تاريخية وأخرى عينية يأتي الوقت لجولة «طعامية» في المقهى، حيث يمكنك تذوق الحلوى على شكل التوليب، ويمكنك أيضاً التبضع حيث تجد قطعاً جملية لا يخلو تصميمها من شكل الزهرة الشهيرة.

تجربة حقول التوليب (الشرق الأوسط)

أهم الأنشطة السياحية في أمستردام

1- التجول في القنوات المائية:

أمستردام تقع في منطقة منخفضة جداً من هولندا، معظم أراضيها كانت عبارة عن مستنقعات وأراضٍ طينية بالقرب من مصب نهر «الأمستل» في بحر الشمال. في العصور الوسطى، بدأ السكان في تجفيف الأراضي وإنشاء قنوات لتصريف المياه، ما جعلها فعلياً «مدينة قائمة فوق الماء». ولهذا السبب فالقنوات المائية هي جزء من هوية المدينة التي تحتوي على أكثر من 100 كيلومتر من القنوات و1500 جسر، مما جعلها تُلقب بـ«فينيسيا الشمال».

يمكن للزائر القيام بجولة عبر القارب للاستمتاع بجمال المدينة من منظور مختلف، وأنصحك بحجز قارب خاص لتناول الفطور، ومن الممكن طلب ذلك من الكونسييرج في الفندق الذي يقوم بتنظيم الرحلة المميزة جداً لأنها تأخذك إلى أماكن جميلة جداً ترى خلالها أجمل المباني، لا سيما في الجهة التي يسكنها الأثرياء وتعرف «بقناة الجنتلمان» حيث يتعدى سعر المبنى فيها الـ3 ملايين يورو.

2- زيارة متحف فان غوخ ومتحف ريكز

يحتوي متحف فان غوخ على أكبر مجموعة من أعمال الفنان الشهير. أما متحف ريكز فيضم كنوزاً فنية هولندية من العصور الذهبية.

3- استكشاف حي جوردان

حي فني وسكني شهير يتميز بالأزقة الضيقة والمقاهي الصغيرة والمعارض الفنية والمتاجر المحلية.

4- زيارة منزل آن فرانك

تحول المنزل إلى متحف يروي قصة الفتاة اليهودية التي اختبأت مع عائلتها خلال الحرب العالمية الثانية.

5- ركوب الدراجة

تُعد الدراجة وسيلة النقل الأكثر استخداماً. يمكن للزائر استئجارها. يذكر أن عدد السكان في أمستردام يقدر بنحو 850 ألف نسمة في حين أن عدد الدراجات يتراوح ما بين ثمانمائة ألف ومليون دراجة، بذلك، يتفوق عدد الدراجات على عدد السكان بنسبة تتراوح بين 5 و18 في المائة، ومن المعروف أنه يتم انتشال آلاف الدراجات من قعر القنوات المائية كل عام، فبواسطة مغناطيس كبير تنتشل الدراجات والسيارات التي تقع في المياه بسبب عدم وجود حواجز ما بين الطرقات والماء، وهذا الأمر يعتبر شيئاً عادياً بالنسبة للهولنديين وتحديداً أهالي أمستردام، فوفقاً لتقديرات فرق الغطس التابعة لفرق الإطفاء في أمستردام، يُسحب نحو 35 سيارة من القنوات سنوياً.

6- المشي من أجمل الطرق لاكتشاف خبايا أمستردام المشي، وإذا كنت من محبي معرفة التفاصيل التاريخية فمن الأفضل المشي مع دليل سياحي يقوم بعرض تاريخ وجغرافيا البلاد بطريقة مسلية ومن خلال المشي على الجسور، فتجلس بين الفينة والأخرى على مقعد عند أحد المقاهي لترتشف كوباً من القهوة وبعدها تتذوق حلوى محلية لتكمل مشوارك مع جرعة زائدة من الثقافة والمعرفة.

من أجمل غرف الطعام في «أنانتارا غراند كراسنابولسكي » (الشرق الأوسط)

ماذا تأكل؟

1. الرنجة الهولندية (Haring)

واحدة من أشهر المأكولات التقليدية في هولندا. تؤكل نيئة، وغالباً ما تُقدَّم مع البصل المفروم والمخللات. يمكن تناولها في أكشاك الشوارع، على شكل «ساندويتش».

2. الوافل الهولندي (Stroopwafel)

نوع من البسكويت الدائري الرقيق المحشو بشراب الكراميل. يُؤكل عادة مع القهوة أو الشاي، ويمكن شراؤه طازجاً من الأسواق أو المخابز. ومن أشهرها مخبز Melly’s Stroopwafels.

3. البطاطس المقلية

بطاطس مقلية سميكة تقدم مع مجموعة متنوعة من الصلصات مثل: المايونيز والكاري وصلصة الفول السوداني.

4. كروكيت

وجبة خفيفة مقلية تحتوي على حشوة كريمية من اللحم أو الدجاج. تُقدَّم غالباً في الخبز كساندويتش، وتُباع في معظم محلات الوجبات السريعة.

5. جبنة غودا وإدام

الجبن الهولندي مشهور عالمياً، يمكنك تذوقها في سوق الجبن أو في جولات التذوق التي تُقام في المتاجر التقليدية.

6. فطائر التفاح الهولندية

فطيرة تفاح سميكة مع طبقات من القرفة والزبيب، وتُقدَّم غالباً مع الكريمة أو الآيس كريم.

التسوق

تنتشر المحلات التجارية حول ساحة «دام» وفي الشوارع الممتدة منها، ومن الزيارات المميزة زيارة مصنع الماس «خاسن» Gassan الذي تأسس عام 1945، وتُعد هذه العلامة من أبرز الشركات في صناعة الألماس. تقدم جولات مجانية، حيث يمكنك مشاهدة كيفية تحويل الألماس الخام إلى قطع لامعة. كما توفر تجربة تلميع قطعة الألماس الخاصة بك بالمجان أيضاً.


مقالات ذات صلة

النظافة في اليابان «وسواس قهري» جماعي يسحر السياح

سفر وسياحة التنظيف جزء من تربية الأطفال السليمة (الشرق الاوسط)

النظافة في اليابان «وسواس قهري» جماعي يسحر السياح

«طوكيو، أنظف مدينة في العالم»، هكذا يقال. لكنك بعد التجوال خارج العاصمة، تكتشف أن علاقة اليابانيين بالنظافة ليست كأي شعب آخر.

سوسن الأبطح (طوكيو)
سفر وسياحة الجونة تتمتع بتصميمات معمارية أنيقة (الهيئة المصرية لتنشيط السياحة)

«الجونة»... هواها مصري وثقافتها أوروبية

على ساحل البحر الأحمر المصري، وعلى بُعد نحو 20 كيلومتراً، شمال مدينة الغردقة، يكون منتجع الجونة وجهة مثالية على مدار العام، فالإجازات الشتوية هناك تنتظر الزائر للاستمتاع بطقس لا مثيل له، وخلال الصيف لا يوجد أفضل من ممارسة الأنشطة البحرية المثيرة، ما يجعلها وجهة مثالية لعشاق الاسترخاء والمغامرة

محمد عجم (القاهرة)
الاقتصاد طائرة تابعة لـ«طيران ناس» السعودية (الشرق الأوسط)

«طيران ناس» تسجل أرباحاً صافية بقيمة 39.4 مليون دولار في الربع الأول

حققت شركة «طيران ناس» السعودية صافي ربح قدره 148 مليون ريال خلال الربع الأول من العام الجاري، بتراجع نسبته 1 في المائة مقارنة بالفترة نفسها عام 2024.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد شعار «طيران الإمارات» على طائرة ركاب بمطار دبي الدولي (رويترز)

رئيس «طيران الإمارات» يحث مصنعي الطائرات على تحمل مسؤولية تأخر التوريد

عبر رئيس «طيران الإمارات»، الأحد، عن خيبة أمله إزاء المشكلات المزمنة المرتبطة بإمدادات قطاع الطيران، وحثَّ شركات صناعة الطائرات على تحمُّل مسؤولية تأخر التوريد.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
الاقتصاد طائرة تابعة لشركة «ناس» السعودية (الشرق الأوسط)

«طيران ناس» السعودي يكثف الرحلات المباشرة مع دمشق

أعلن «طيران ناس» السعودي، إطلاق رحلتين أسبوعياً، مباشرةً بين جدة (غرب المملكة) ودمشق، اعتباراً من 12 يونيو (حزيران) الحالي.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

النظافة في اليابان «وسواس قهري» جماعي يسحر السياح

التنظيف جزء من تربية الأطفال السليمة (الشرق الاوسط)
التنظيف جزء من تربية الأطفال السليمة (الشرق الاوسط)
TT

النظافة في اليابان «وسواس قهري» جماعي يسحر السياح

التنظيف جزء من تربية الأطفال السليمة (الشرق الاوسط)
التنظيف جزء من تربية الأطفال السليمة (الشرق الاوسط)

«طوكيو، أنظف مدينة في العالم»، هكذا يقال. لكنك بعد التجوال خارج العاصمة، تكتشف أن علاقة اليابانيين بالنظافة ليست كأي شعب آخر. هم نسيج وحده، لا بسبب نشاط بلدياتهم، ولا لقسوة غراماتهم، وإنما لانضباط الشعب، والتزامه الشخصي الفريد. لا تستغرب أن تشاهد في الشارع مجموعة من الرجال والنساء بالبدلات الرسمية السوداء، مع ساعات الصباح الأولى، يحمل كل منهم ملقطاً كبيراً بيد، وكيساً صغيراً باليد الأخرى، يبحث على الأرض، لعله يجد شيئاً صغيراً ما، سقط سهواً، من أحدهم. حدّقت لأرى عما يبحثون، كان الشارع خالياً من أي مخلفات، أو ربما لا نرى ما يرون.

التنظيف جزء من تربية الأطفال السليمة (الشرق الاوسط)

مهما يكن الفندق الذي تختاره في رحلتك متواضعاً، ستجده قد حضّر لك مع الشامبو والصابون والمحارم، فرشاة الأسنان، البيجاما والنعل، فرشاة للشعر، وربما كريمات الوجه، وبعض مستحضرات العناية بالبشرة. فأنت في بلاد ذاع صيت مستحضراتها وكريماتها حتى صارت مقصداً. وستجد دائماً أن ثمة غسالة ونشّافة في الفندق توضع في تصرفك، مقابل مبلغ صغير، فأنت لا بد أن تغسل ملابسك باستمرار كي تبدو هفهافاً وفواحاً. ولا تستغرب لو قيل لك إن غرفتك لن تنظف أو ترتب كل يوم، إلا إذا طلبت ذلك، ففي العرف الياباني، نظافة المكان الذي تقيم فيه من واجباتك على نفسك، أولاً، وليست مهمة الآخرين.

اهتمام خاص بتدريب الأطفال على التنظيف (الشرق الاوسط)

النظافة الفردية، كما العامة في هذه البلاد، مثل الانضباط واللياقة، هي سرّ للتميز الذي لن تقع على مثيل له في أي مكان آخر.

أثناء تجولك في الشارع، لا تتعب نفسك بالبحث عن سلة مهملات، فهي غير موجودة أصلاً. كل شخص يحتفظ بمخلفاته، ويعيدها معه إلى بيته أو مكتبه، ليتخلص منها. حتى في أسواق المأكولات، التي تمتد فيها المحلات والمطاعم الشعبية على مدى منطقة بأكملها، لن يسعفك البحث في العثور على سلة مهملات، ولكن في الوقت نفسه، لن تجد أبداً من سولت له نفسه رمي مخلفاته على الأرض.

التزام اليابانيين بالنظافة هو نتاج تاريخ طويل تختلط فيه المعتقدات الدينية بالتربية البيتية والتنشئة المدرسية والقيم التي تعطي الأولوية لاحترام مصلحة الجماعة. هذه العوامل تكاملت عبر القرون لتجعل من ممارسات النظافة ليس مجرد عادة، بل مبادئ أخلاقية في حياة اليابانيين.

النظافة في اليابان قضية وطنية (الشرق الاوسط)

يتدرب الأطفال على خدمة أنفسهم، ومعرفة واجباتهم الاجتماعية، منذ الصفوف المدرسية الأولى، ويقومون بأنفسهم بمهمة تنظيف صفوفهم. بالتالي، ليس غريباً بعد ذلك أن ترى كل شيء لمّاعاً في هذه البلاد، من قاطرات المترو، إلى أسواق الأطعمة وحتى الحمّامات العامة.

الحمامات العامة قصة لوحدها، كثيرة، وأنيقة، في خدمتك أينما كنت، في محطات المترو والأسواق، على الشواطئ وفي الغابات. غاية في النظافة، والترتيب والتطور التكنولوجي، يتوفر فيها كل ما تحتاجه، بالمستوى الذي يجعلك لا تتردد في الدخول إليها، بل تجد نفسك مدفوعاً لأن تمر بها وتتأكد كيف أن اليابانيين يستخدمونها، كأنها جزء من بيوتهم، ويتركون المكان خلفهم أنظف منه حين دخلوا إليه. أما المراحيض فهي دائماً إلكترونية في كل الحمامات العامة، كما في المنازل والفنادق والمطاعم، وكذلك الحنفيات تعمل باللمس، في محاولة لتأمين أكبر مستوى من الحماية الصحية للمواطنين.

تلحظ أن بعض العادات التي فقدناها يعتز بها اليابانيون، باعتبارها نوعاً من السلوكيات الصحية التي يحرصون عليها، مثل خلع الحذاء قبل الدخول إلى المنزل واستبدال نعل به، والحرص على استخدام نعل آخر مختلف عند الدخول إلى الحمام. تلك كانت شروط جداتنا في منازلهن ونسيناها تدريجياً، وبقي اليابانيون يتمسكون بها. بعض المطاعم التقليدية تطلب من روادها خلع أحذيتهم قبل الدخول، ليعيشوا الأجواء اليابانية. والسياح خصوصاً من الأوروبيين يحبون هذا الطقس ويقبلون على المطاعم التقليدية تحديداً، التي غالباً ما يجلسون فيها على الأرض، رغبة منهم في عيش التجربة.

قاطرات المترو، والقطارات من الداخل والخارج، تنظف وتشطف بالماء والصابون، كي تبقى دائماً بكامل بهائها. لهذا وحفاظاً عليها، ستجد التعليمات التي تذكّر باستمرار بأن الأكل والشرب ممنوعان في هذه الأماكن، تماماً كما التحدث في الجوال، كي لا تتسبب بالإزعاج للآخرين. لهذا وبسبب آداب الحديث بصوت منخفض في الأماكن العامة، بما يقارب الهمس أحياناً، تشعر أن الحياة في اليابان، بلا صخب، وتجعلك أقرب إلى الاسترخاء حتى في المدن المزدحمة مثل طوكيو ذات الـ37 مليون نسمة، وذلك بسبب هدوء السكان.

على أي حال، ليس بالأمر المستحب لدى اليابانيين الأكل أثناء المشي، وفي مكان يراك فيه الآخرون، على رصيف مترو أو في الطريق. الإنسان هنا، يجب أن يبقى رصيناً وبأفضل هيئة، لا يحمل كوباً أو ينهش سندويشاً أو يقضم تفاحة وهو يسير في الشارع. أما التدخين فممنوع حتى في الأماكن المفتوحة والأسواق، وبعض الحدائق تخصص زاوية مسورة للمدخنين، الذين يبدون لك كالمنبوذين.

كل ذلك قد يبقى طبيعياً، لكنك حين تدخل أحد محلات بيع الملابس لماركة يابانية عملاقة، وترى الطابور أمام غرف القياس، قد لا تصدق أن ثمة من يطلب منك خلع حذائك على باب غرفة التجريب، حين يأتي دورك، ويمسح تلك المساحة الصغيرة التي ستقف فيها قبل أن تدخلها، ثم يعود ويمسحها بعد أن تخرج منها مباشرة، رغم أنك استخدمتها عاري القدمين ولدقائق معدودة. العاملة هنا تمسح «كابينات» القياس، في كل مرة تطأها قدم إنسان، حقاً إنه أمر يسبب الدوار، لأن الآلاف يمرون من هنا في اليوم الواحد.

النظافة هي جزء من احترام الذات، ولها جذور دينية وروحانية. ثمة ربط بين التطهر الجسدي ونقاء الروح في ديانة «الشنتو». كما أن مذهب الزن في البوذية يُشدد على الانضباط الذهني عبر أفعال بسيطة مثل الكنس والتنظيف. وفي الأديرة البوذية، يُعد التنظيف نشاطاً تأملياً يُسهم في تطهير النفس، وهو ما أثر على تشكيل الثقافة العامة. هذا عدا المعاناة القديمة من الأوبئة في البلاد التي دفعت السكان إلى ممارسات وقائية أصبحت جزءاً من العادات، وآخرها لبس الكمامات، وهو ما جعل عدد الضحايا في «كوفيد - 19» في اليابان من بين الأقل في العالم.

موضوع النظافة هو نظام متكامل يبدأ بالفرد الذي يعتني بنفسه ومحيطه منذ يكون طفلاً ينظّف صفه المدرسي، مروراً بالتربية الدينية وصولاً إلى الدولة التي تعمل باستمرار على تجويد نظام إدارة النفايات، من خلال فرز محكم، واستغلال للمواد المفرزة في توليد الطاقة أو إعادة تدويرها. فالياباني لا يحتفظ بنفاياته حتى عودته إلى البيت تحاشياً للعقاب المادي، بقدر هو خوف من العار وتجاوب مع إرادة جماعية صارمة، لا تتسامح مع سلوك من هذا النوع تعتبره مشيناً، وإهانة للمجتمع.

كلنا نتذكر كيف قام مشجعو المنتخب الياباني بتنظيف المدرجات في كأس العالم عام 2022 في الدوحة، قبل أن يغادروها، رغم أنه كان يفترض أن يبتهجوا وينشغلوا بالاحتفال بفوزهم على ألمانيا 2-1 في تلك المباراة. يومها تناقلت وسائل الإعلام الخبر مثنية على سلوك المشجعين الذين تفردوا بهذه المبادرة وما كانوا مضطرين. وظن البعض أنها نوع من الاستعراض، لكن الحقيقة أن الياباني لا يملك إلا أن يكون أميناً لتقاليده حتى وهو في غاية الفرح والانتشاء. هذا ما فعلوه في روسيا أثناء كأس العالم عام 2018، وما نراه منهم أينما وجدوا في الملاعب.

OSZAR »