«همسات كهربائية»... تجربة فنية إيطالية تنبض في قلب لبنان

الترقب والذاكرة الجماعية في صلب المعرض

من لوحات دي مارتينو في معرض «همسات كهربائية» (المركز الإيطالي)
من لوحات دي مارتينو في معرض «همسات كهربائية» (المركز الإيطالي)
TT

«همسات كهربائية»... تجربة فنية إيطالية تنبض في قلب لبنان

من لوحات دي مارتينو في معرض «همسات كهربائية» (المركز الإيطالي)
من لوحات دي مارتينو في معرض «همسات كهربائية» (المركز الإيطالي)

تغتنم الفنانة الإيطالية رآ دي مارتينو فرصة إقامتها في لبنان لعرض مجموعة من الصور الفوتوغرافية التي التقطتها. وتحت عنوان «همسات كهربائية»، تضع تجاربها الفنية القديمة والجديدة في متناول زوّار المعرض، الذي يستضيفه «مركز بيروت للفن» حتى 15 أغسطس (آب)، وينظّمه «المعهد الثقافي الإيطالي» في بيروت.

يُسلّط المعرض الضوء على أعمالها الحديثة التي استلهمتها خلال إقامتها في بيروت، وقد اختارت إلى جانبها مجموعة من أعمالها السابقة التي تعبّر عن مسار بحثي تستخدم فيه تقنيات فنية متنوّعة، من بينها التسجيلات المصوّرة (فيديو)، والتصوير الفوتوغرافي والسينمائي، والرسوم المتحرّكة ثلاثية الأبعاد.

الفنانة الايطالية رآ دي مارتينو (المركز الإيطالي)

يطالعك في وسط المعرض عملٌ بعنوان «تركيز الانتباه»، وهو جديد ومبتكر يُعرض للمرة الأولى في بيروت، وينتمي إلى الفن التركيبي؛ إذ يتألّف من شريحتين تُعرضان عبر الإسقاط الضوئي. استوحت الفنانة الإيطالية العمل من بحثٍ أرشيفي أجرته في عام 2025.

تصوّر الشريحة الأولى مشهداً بالأبيض والأسود، أعادت معالجته انطلاقاً من صورة مأخوذة من أرشيف عملٍ مسرحي، ويظهر فيه جمعٌ من الناس ينظرون إلى السماء، في لحظة متأرجحة بين الانبهار والترقّب. أما الشريحة الثانية، فتصوّر صفحة من رواية خيال علمي تعود إلى خمسينات القرن العشرين، تطغى عليها صورة طبق طائر ضخم.

وتولّد الصورتان معاً سرداً بصرياً عن التوق والتطلّع يحاكي الشعور بالضياع والدهشة المرتبطين دوماً بتصوّرات المستقبل الخيالية.

تُكمل زيارتك للمعرض، ليطالعك العمل الرئيسي، «همسات كهربائية»، وهو ثمرة إبداعٍ فني ينبثق من صورة التُقِطت في صالة ألعاب إلكترونية بمدينة طرابلس اللبنانية. يظهر في الصورة طفل وحيد، جالس وظهره للكاميرا، غارق في عالم من الخيال الرقمي، فيمنح الناظر لحظة تأمّل هادئة في كيفية تشكّل الفضاءات الافتراضية لهوية الأجيال الناشئة.

وتُعيد المعالجة الرقمية إلى الصورة صياغة المكان على هيئة هندسة متكسّرة، ما يعكس منطق الإدراك المُعدَّل الذي تفرضه الثقافة الرقمية. ويمثِّل هذا العمل بداية مشروع سينمائي جديد، تخطّط دي مارتينو لتصوير أجزاء منه في لبنان.

معرض «همسات كهربائية» في مركز بيروت للفن (المركز الإيطالي)

من مدينة صيدا، انتقت دي مارتينو سلسلة فوتوغرافية بعنوان «أشجار مفتوحة»، معدّلة رقمياً. وقد التقطت هذه الصور عام 1908. وتُجسّد مشهداً طبيعياً من المدينة الجنوبية. تُعرض بالأبيض والأسود تحت إضاءة فوق بنفسجية، ما يولّد لدى المتلقّي إحساساً بانهيار الزمن على ذاته، ويطرح تساؤلات حول الحقيقة والتاريخ بوصفهما مفهومين غير نهائيَّين. ومن خلال العودة إلى تقنيات بصرية قديمة ومعالجتها رقمياً، تستقصي الفنانة كيف يُعاد تشكيل الذاكرة والمكان باستمرار.

تركّز دي مارتينو في أعمالها على عدسة الكاميرا الحديثة، فتجمع من خلالها تقاطع الذاكرة مع التكنولوجيا والمخيّلة المستقبلية، وهو ما يتجلّى في أكثر من مجموعة ضمن «همسات كهربائية».

من بين هذه الأعمال، تبرز مجموعة سابقة بعنوان «can’t» (لا يستطيع)، وهي رسوم متحرّكة ثلاثية الأبعاد صممتها باستخدام برمجيات ألعاب الفيديو. يظهر فيها روّاد فضاء يهربون من حشرات عملاقة، وتظهر أطراف تلك الكائنات داخل فضاء افتراضي مشوّش، تسعى من خلاله الفنانة إلى تضخيم الإحساس بفقدان المقياس الإنساني والمعرفة العقلانية. وتغدو هذه الرحلة عبر الشيفرة الرقمية استعارة للتيه الوجودي وتلاشي اليقين المعرفي.

وفي لوحة «After All»، من مجموعة نفّذتها عام 2019. نشاهد تركيباً ثنائيَّ القناة، تتجوّل فيه كائنات غريبة، من بينها آلهة تائهة ومشرّدون مستقبليون. تمزج دي مارتينو في هذه البيئات الهجينة بين الرقمي والمادي، على أنغام صوتية مؤلّفة من همسات، وأناشيد، وإيقاعات طبيعية، وتردّدات نشاز. وتشكل هذه اللوحة السمعية - البصرية انعكاساً لرؤية الفنانة لواقعٍ سائد تُمحى فيه الحدود بين الذات والنوع الفني.

أما في «بُور جيري»، فتظهر شخصية كرتونية تائهة تُشبه الفأر «جيري» من سلسلة «توم وجيري» الشهيرة، تصحبنا في جولة عبر مناظر جزيرة لانزاروت، جزيرة البراكين الإسبانية. تُحرّك الشخصية شفتيها بمزامنة حوارٍ عاطفي مقتبس من أفلام رومانسية، في حين يستقصي العمل قدرة الصورة واللغة على الاحتفاظ بالمعنى في زمن التماثل البصري والثقافي.

يتناغم معرض دي مارتينو مع رؤى فكرية تتجاوز النظرة إلى التكنولوجيا الرقمية بوصفها أدوات محاكاة فحسب، ليقدّمها كمنصّات للتفكير الفلسفي والتأمّل السياسي. يجد الزائر نفسه منغمساً في تحليل هذا المزيج الفني الغني، الذي تتداخل فيه العناصر البصرية والتجريبية، وتكتنفه أحياناً مسحة من الغموض. وفي هذا السياق، يُعاد النظر في التكنولوجيا لا بوصفها وسيطاً تقنياً فقط، بل بوصفها فضاءً مُنفتحاً على الاكتشاف الشعري. هكذا، تتقاطع الذاكرة مع المُخيّلة والثقافة البصرية، لتشكّلا معاً معالم مستقبل يتجاوز التوقّعات.


مقالات ذات صلة

«سنوات مع الباستيل» يحتفي بالهوية المصرية

يوميات الشرق معرض «سنوات مع الباستيل» يبرز تجربة محمد غانم مع الوسيط الفني

«سنوات مع الباستيل» يحتفي بالهوية المصرية

«سنوات مع الباستيل» للدكتور محمد غانم من المعارض النادرة المُخصصة لرسومات وألوان الباستيل لفنان مصري.

نادية عبد الحليم (القاهرة)
يوميات الشرق تتقلَّب المراكب بأسماء الغائبين والموج يُعيد ما لا يعود (أندريه كالفيان)

أندريه كالفيان… رسّام الشقوق التي تُخبِر عمّا كان

حين نقترب من عالمه، نجد أنّ الميناءَ استعارةُ العودةِ، المراكبِ التي غادرت ولم تعُد، والشختورةِ الصغيرةِ التي تواصل السباحة كأنها لم تسمع بمآسي الهجرة.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق عدسات المصوّرين تجوَّلت في شوارع الجمالية (المُشرف على المعرض)

معرض فوتوغرافي يرصد «المتاهة السحرية» في القاهرة التاريخية

في المعرض الفوتوغرافي «الجمالية في عيون عشاقها»، قدَّم الفنانون المشاركون أعمالاً استطاعت أن توظّف القيمة التاريخية للمكان في إطار فنّي وفق أبعاد حداثية معاصرة.

محمد الكفراوي (القاهرة)
يوميات الشرق مقامات عائلة سيدي عمر أبو لطيعة بمنطقة «رأس الترعة» في البحيرة (تصوير: سمر بيومي)

مشروع مصري يوثّق الذاكرة الروحية لتراث المقامات في الإسكندرية

يسعى المشروع إلى توثيق الأضرحة والمقامات التي تعود إلى القرن الـ14، والمهدَّدة بالاندثار، خصوصاً في المناطق الريفية.

محمد عجم (القاهرة )
يوميات الشرق «انطباعات من الجنة» يفتح أبوابه حتى 30 أكتوبر المقبل (الشرق الأوسط)

«انطباعات من الجنّة»... جرعات حنين إلى لبنان الذهبي

تكمن قيمة «مجموعة فيليب جبر الفنية» في تنوعها الكبير وعددها، حيث تشكّل معاً هويتنا الوطنية الحقيقية.

فيفيان حداد (بيروت)

دراسة تربط بين تناول الجبن قبل النوم ورؤية الكوابيس

تناول الجبن في وقت متأخر من الليل قد يرتبط برؤية الأحلام الغريبة والكوابيس (رويترز)
تناول الجبن في وقت متأخر من الليل قد يرتبط برؤية الأحلام الغريبة والكوابيس (رويترز)
TT

دراسة تربط بين تناول الجبن قبل النوم ورؤية الكوابيس

تناول الجبن في وقت متأخر من الليل قد يرتبط برؤية الأحلام الغريبة والكوابيس (رويترز)
تناول الجبن في وقت متأخر من الليل قد يرتبط برؤية الأحلام الغريبة والكوابيس (رويترز)

تُعدّ الأحلام الغريبة والكوابيس المفعمة بالحيوية التي تلي تناول الجبن في وقت متأخر من الليل «شكاوى شائعة بشكل مدهش»، إلا أن الأدلة العلمية التي تربط بينهما كانت غائبة، وفق ما ذكره موقع «ساينس آليرت» العلمي.

وأكدت دراسة جديدة تبحث في العلاقة بين الطعام والنوم والأحلام أن عدداً من الأطعمة التي تتناولها قبل النوم قد يكون لها بالفعل تأثير حقيقي على الليلة المقبلة. وكثيراً ما يُسأل توري نيلسن، عالِم «علم الأعصاب المتعلق بالأحلام» في جامعة مونتريال، والذي قاد الدراسة، عن تأثير الطعام على الأحلام، وقد نشر أبحاثاً سابقة حول هذا الموضوع.

وفي الدراسة الجديدة، قام هو وفريقه بتجنيد 1082 طالباً في علم النفس من جامعة ماكيوان الكندية لإجراء استطلاع رأي عبر الإنترنت، استقصى عاداتهم الغذائية، ووقت نومهم وجودته، وأحلامهم، وكوابيسهم. كما قيّم الاستطلاع تصورهم لكيفية تأثير أنواع معينة من الطعام، ووقت تناوله، على نومهم وأحلامهم، إن كان له أي تأثير.

وتشير هذه النتائج الجديدة إلى أن تغيير عادات الأكل لدى الأشخاص الذين يعانون من حساسية تجاه بعض الأطعمة قد يُخفف من الكوابيس. كما يُمكن أن تُفسر سبب إلقاء الناس اللوم في كثير من الأحيان على منتجات الألبان في الأحلام المزعجة، وفقاً لنيلسن.

واعتقد 5.5 في المائة فقط من المُستجيبين أن نوع الطعام المُتناول وتوقيت تناوله قبل النوم يؤثران على أحلامهم، لكن مُعظم المشاركين في هذه المجموعة ألقوا اللوم إما على منتجات الألبان وإما على الحلويات في حدوث هذه التغييرات. وكان هذا ينطبق بشكل خاص على الأحلام المُقلقة أو الغريبة، حيث ألقى 31 في المائة من المشاركين باللوم على الحلويات، بينما ألقى 22 في المائة باللوم على منتجات الألبان.

كما وجد الباحثون ارتباطاً قوياً بين حالات مثل «عدم تحمل اللاكتوز» و«حساسية الطعام»، وبين الكوابيس وقلة النوم، ربما لأن الغازات وآلام المعدة تُعيق النوم بطرق تزيد من فرص رؤية الأحلام وتذكرها. ويشير هذا إلى أن علاج مثل هذه الحالات من خلال التغييرات الغذائية قد يؤدي إلى تحسين النوم، فضلاً عن راحة الجهاز الهضمي.

ووجدت الدراسة أيضاً أن الأشخاص الذين يتناولون طعاماً صحياً أو يتناولون كميات طعام أقل في المساء يُبلغون عن تذكر أفضل للأحلام، بينما الأشخاص الذين يتناولون طعاماً غير صحي أو يتناولون كميات كبيرة من الطعام في المساء هم عرضة لرؤية كوابيس أكثر حدة، أو أحلام ذات طابع سلبي.

OSZAR »